Joy: The Story of IVF.. أو كيف تصلح الحقائق القديمة لإثارة الدهشة؟

الملصق الدعائي لفيلم Joy: The Story of IVF على منصة نتفليكس - facebook/netflixmiddleeastnorthafrica
الملصق الدعائي لفيلم Joy: The Story of IVF على منصة نتفليكس - facebook/netflixmiddleeastnorthafrica
القاهرة -عصام زكريا*

مثل البشر، بعض الأفلام صاخبة فنياً ومضموناً، وبعضها صاخب صوتاً بلا مضمون، وبعضها هادئ فناً ومضموناً يمر على المشاهد مرور الكرام، أما البعض الآخر فيحمل مضموناً قوياً ولكنه هادئ أكثر مما ينبغي، وهذه حالة فيلم Joy: The Story of IVF أو "جوي: قصة أطفال الأنابيب"، الذي بدأت منصة نتفليكس في بثه مؤخراً.

تحمل إحدى قصص الأديب يحيى الطاهر عبد الله عنوان "الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة"، وينطبق العنوان كثيراً على فيلم Joy.

يروي الفيلم واقعة علمية حقيقية طالما تكرر مثلها عبر التاريخ: عالم سابق لعصره يقضي حياته في اكتشاف أو اختراع شيء يفيد به البشرية، لكن بدلاً من التقدير يلقى التكفير، وبدلاً من المكافأة يتلقى الإهانة، وبعد أن يموت أو يشيخ يعاد إليه اعتباره، ويصبح بطلاً في عيون من كفّروه وأهانوه.

أبطال الأنابيب

من سقراط أول الفلاسفة إلى ابن رشد وابن سينا اللذين دافعا عن العقل والمنطق، إلى جاليليو الذي اكتشف أن الأرض تدور، إلى داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء، لطالما تعرض العلماء والمفكرون قديماً وحديثاً إلى شتى أنواع الاضطهاد والقتل أحياناً، قبل أن تدور عجلة الزمن فتنصفهم، قبل، وأحياناً بعد، فوات الأوان.

من هؤلاء ثلاثة مغامرون شجعان: عالم يسعى لعلاج مشاكل العقم في جامعة هارفارد، وجراح كبير صاحب مهارات استثنائية، وفتاة تعمل كممرضة تنضم إلى الاثنين في سعيهما إلى اختراع وسيلة غير مسبوقة تساعد النساء اللواتي يرغبن في الحمل، سوف يطلق عليها In Vitro Fertilisation أو "التخصيب داخل أنبوب"، والتي ستعرف لاحقاً باسم "أطفال الأنابيب".

يروي فيلم Joy قصة هؤلاء الثلاثي: د. روبرت إدواردز، والجراح باتريك ستيبتو، والممرضة جين بيردي، الذين واصلوا العمل على مدار عشر سنوات من 1968 وحتى 1978، رغم الفشل المتكرر واتهامات رجال الدين والصحافة والرأي العام لهم بالتعدي على قوانين الطبيعة والمشيئة الإلهية، وتشبيههم بالدكتور فرانكنشتين مخترع المسخ المرعب الشهير.

ما أشبه اليوم بالبارحة

فيلم Joy من إنتاج بريطاني خالص، حيث جرت وقائع القصة وحيث أثارت الجدل الأكبر، ومن إخراج بن تيلور عن سيناريو جاك ثورن، عن قصة سجل وقائعها كل من ريتشيل ميسون، إيما جوردون وشون توب.

وقد اختار صناع الفيلم من بين مئات الصفحات العلمية وعشرات الوقائع والشخصيات، أن يركزوا على شخصية الممرضة جين بيردي، رغم أنها من الناحية العلمية لم تساهم كثيراً في الاكتشاف والبحث، ولكن عرفت بإنسانيتها وإخلاصها.

ولعل كونها أنثى ساهم أيضاً في التركيز على دورها في كشف يهم النساء وأجسادهن وحريتهن، كما يبدو أن اختيارها يحركه أيضاً تلك المناظرات العنيفة التي تشهدها الولايات المتحدة والعالم حالياً حول حرية الإجهاض والحمل، والتي تستدعي مقولة "ما أشبه الليلة بالبارحة".

جوي.. أم جين؟

مع ذلك يشير اسم الفيلم، Joy، إلى شخصية أخرى، وهي أول طفلة تولد عن طريق الأنابيب، والاسم الذي يعني "فرح" بالإنجليزية، أطلقه الدكتور إدواردز على الطفلة بناء على طلب أمها، ولكن هذا الخط لا يستغرق سوى ثوانٍ في نهاية الفيلم ولا يسبقه تمهيد أو يتبعه استطراد.

كان يمكن أن يكون هذا خطاً درامياً قوياً، يركز على شوق النساء المحرومات من الأطفال إلى الأمومة، ومعجزة الإنجاب في حد ذاتها التي ساهم فيها فريق العلماء، ولكن ربما كان سيشتت الخط الرئيسي الذي يركز على جين بيردي. 

مع ذلك فإن Joy لا يسعى للإيحاء بأية إحالات تاريخية، ومن خلال سرده الواقعي البسيط، الذي يركز فحسب على الحدث الرئيسي، وهو مراحل تطور الفكرة العلمية منذ مولدها وحتى أصبحت أمراً واقعاً مقبولاً الآن في كل المجتمعات والثقافات بعد أن كان محرماً ومجرماً لسنوات طويلة.

هذه البساطة والتركيز على الأساسيات، بدلاً من التفاصيل الزائدة والخطوط الفرعية، ينحو بالفيلم نحو التجريد، ومن ثم يجعله نموذجاً لرحلة العقل البشري والثورة الصناعية في مواجهة الخوف من تحول هذا العقل والعلم إلى خرق لسنن الطبيعة والكون.

أصول الرعب!

ربما كانت قصة "فرانكنشتين" لماري شيلي هي أول عمل يسجل هذا الخوف، الذي يتجسد في هيئة وحش مشوه لا تستقيم الحياة مجدداً إلا بقتله في النهاية، ولعل أحدث عمل يتناول هذا الخوف هو فيلم Substance الفائز بجائزة سيناريو مهرجان "كان" الماضي، والذي يتحول فيه الهوس باستعادة الشباب إلى كابوس مرعب.

لا عجب إذن أن تطلق صحيفة Daily Mirror على الدكتور إدواردز اسم "فرانكنشتين"، ولكن العجيب هو ذلك الإصرار على الاستمرار رغم كل المعوقات: تحديات الابتكار نفسه التي تستغرق 10 سنوات من العمل اليومي في المجهول، وهجوم وملاحقة الصحافة، ورفض الهيئات العلمية الحكومية للفكرة، بجانب تحديات الحياة الشخصية التي تواجه الأبطال الثلاثة، وخاصة جين، التي تتبرأ منها أمها وترفضها الكنيسة كما ترفض هي الزواج، وتعيش وحيدة تعاني شخصياً من عدم قدرتها على الإنجاب، قبل أن تموت في بداية الثلاثينيات من عمرها بفعل السرطان، دون أن تستفيد من الابتكار أو تحظى بحياة عائلية.

مأساة خلف الإنجاز

تخبرنا عناوين الفيلم أن الدكتور إدواردز أصر حين حصوله على جائزة نوبل في 2010، أن يذكر اسم جين بجواره والدكتور ستيبتو، تقديراً للدور الكبير الذي لعبته في خروج الابتكار إلى النور.

ويصور الفيلم هذا الدور الذي يتمثل في الإيمان بالفكرة والمثابرة، ومساعدة النساء اللواتي يتبرعن لإجراء التجارب عليهن، بطمأنتهن مرة لتشجيعهن على خوض التجربة وتحمل آلامها، وتعزيتهن مرة حين تفشل المحاولة، في الوقت الذي تعاني فيه من مأساة تتجسد في عقمها من ناحية وفي العزلة التي تعيش فيها، بسبب انضمامها إلى فريق البحث (سيئ السمعة).

تلعب دور جين بيردي الممثلة النيوزيلندية الشابة توماسين ماكينزي، وهي ذات وجه جميل وغريب ملائم للأعمال التاريخية والخيالية، بينما يلعب دور الدكتور ستيبتو الممثل الإنجليزي الكبير بيل ناي، صاحب الملامح المميزة التي تجمع بين الصرامة والاستقامة، أما الدكتور إدواردز فيؤديه جيمس نورتون، ولعله أقل الثلاثة حضوراً، إذ يؤدي من منطقة واحدة في كل المواقف.

لا يمكن اعتبار جوي فيلماً عظيم القيمة فنياً، وهو حتى ليس مسلياً أو مشوقاً بما يناسب جمهور الترفيه، ومع ذلك هو فيلم مهم مثل موضوعه، يمكنك أن تشاهده كعمل "توثيقي" يقتطع فصلاً من قصة الصراع بين التقليد والتجديد، الاستقرار والابتكار، الإنسان في مواجهة التكنولوجيا، وهي قصة صالحة للتأمل دوماً، خاصة الآن ونحن على مشارف ثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات فائقة الإتقان.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك