للمرة الأولى خلال دوراته الأربعة، يفتتح مهرجان البحر الأحمر السينمائي فعالياته بفيلم مصري (إنتاج مصري سعودي مشترك).
فيلم "ضي" هو الثاني لمخرجه كريم الشناوي، بعد "عيار ناري" عام 2018، والتعاون الثالث له مع الكاتب هيثم دبور، بعد كلّ من "عيار ناري" والفيلم القصير "فردي" 2013.
من الجيد أن ينتبه مهرجان بحجم البحر الأحمر، لضرورة أن تكون السينما الإقليمية محل اعتبار، وأن يخلق من مناسباته الهامة منصة عرض تسمح بالاطلاع على أحدث إنتاجات السينما الإقليمية، خاصة مع الكم الكبير من الحضور الدولي الذي أصبح علامة مميزة بالنسبة للمهرجان الشاب. مع الأخذ في الاعتبار أنه سبق للبحر الأحمر في دورته الأولى، أن قدم العرض الأول للفيلم المصري "بره المنهج" تأليف وإخراج عمرو سلامة.
سيرة ومسيرة
ينتمي "ضي" إلى أكثر من نوع سينمائي، أو لنقل أكثر من شكل، ففي ظاهره، هو فيلم رحلة بطل، وفي الوقت نفس، هو فيلم طريق بامتياز، حيث يتتبع رحلة المراهق الشاب "ضي" المصاب بمرض عداء الشمس "البينو" بصحبة معلمة الموسيقى الشابة "صابرين"، وأخته المتذمرة الغاضبة، وأمه الحامية التي لا تطيق فراقه، وتود لو أنها حوطت عليه لا بطرحتها ولكن بكيانها كله. هذه الرحلة التي تتحرك من النوبة إلى القاهرة بعد قبول الفتى في واحدة من فقرات برنامج المواهب الشهير بحكم موهبته الصوتية المميزة وأداءه الجذاب لأغاني الجنوبي الساحر محمد منير.
تبدو رحلة البطل قائمة على الشكل الكلاسيكي المطعم بمبالغات ميلودرامية هدفها خلق أكبر قدر من التعاطف ومحاولة توريط المتفرج شعورياً مع الشخصية، وهي مبالغات نمطية نسبياً، مثل خوف الأم الزائد على "ضي"، واتهام أخته المستمر بأنها تدلله أكثر منها بحكم مرضه والمواجهات المضحكة بين "صابرين" والأم في مشاهد القطار، والصدف التي تحاول أن تبدو قدرية، كأن يصاب "ضي" في مشاجرة مفتعلة بالشارع وينقل إلى المستشفى، فيجد محمد منير هناك، كل هذه الميلودراما التي تتراوح ما بين التضخيم الشعبوي والصدفة الملقاة على قارعة الدراما، ربما استطاعت تغذية الرحلة بالتفاصيل وسياقات الحركة المطردة إلى الأمام، لكنها في المقابل أضرت كثيراً بالنوع الذي تأرجحت الحكاية بينه وبين الأشكال الأخرى ونعنى به "الشعرية".
في الدراما يمكن لأي حكاية أن يختار راويها النوع الذي يفضله، رحلة بطل أو فيلم طريق أو كوميديا هزلية أو إثارة عاطفية، فهو يرى أن رؤيته تتجلى من خلاله بشكلٍ يقترب من طموحه غير المكتمل دوماً في روايتها، ولكن يظل هناك نوعاً معيناً يجذب الحكاية دون إرادة منها أو من راويها، وغالباً ما يكون هذا النداء أشبه بنداء الغريزة، أي أن كل فكرة أو حكاية تفرز رائحتها الدرامية الخاصة التي تجذب النوع القادر على تلقيحها بصورة تؤطر أبعادها بالشكل والمزاج والأسلوب الاكثر تحققاً والأقرب اكتمالاً.
في "ضي" أو كما يحمل عنوانه الفرعي "سيرة أهل الضي" بما يوحي أن الفيلم ليس عن الشاب "ضي" فقط، ولكن عن مجموعة من البشر في سعيها الإنساني المشروع نحو مستويات مختلفة من التحقق المشمس والبراق، نقول إن التجربة رغم حيويتها النسبية في التعاطي مع رحلة البطل وحالة الطريق غير المنمق بالراحة ولا المفروش بالورود السهلة، يبدو ثمة مستوى شعري يراود الحكاية طوال الوقت عن نفسها، يجذبها باتجاهه بينما تقاوم هي التورط أو الانسياق وراء مذاقه الوجودي أو ربما نخبويته.
فتى من أعداء الشمس في مجتمع نوبي أسمر يتعرض للتنمر، لكنه يملك صوت جميل وإحساس شفاف يحاكي صوت وإحساس مطرب أيقوني خارج التصنيف، يتعرض للتنمر من قبل مجتمعه في حين يحاول الدليل/ المينتور بلغة الدراما أن يقوده في الطريق عبر الجحيم للوصول إلى مبتغاه، وهو شكل رحلة البطل التقليدية في الدراما الإغريقية، والدليل هنا ليس شخصية واحدة ولكنه 3 نساء من 3 مراحل عمرية مختلفة، تربطه بهم 3 سياقات إنسانية كل منها مغاير عن الأخرى.
رحلة غير عادية
هذه ليست رحلة عادية في مستواها الشعري، إنها ليست رحلة البحث عن "زيكو" لكي يغني "الغزالة رايقة"، فالرحلة تعيد اكتشاف الشاب لنفسه ولعلاقته مع العالم، وتعيد إنتاج مشاعر الرفقاء أو الأدلاء المصاحبين له، هي رحلة تكشف واكتشاف، تارودنا فيها مشاهد شعرية مبهجة وجودياً، مثل مشهد وصولهم إلى الأقصر في الفجر، ومشاهدتهم المناطيد الملونة وهي تملأ وترتفع إلى السماء مثل حلمهم بأن يسطع "ضي" ويصعد نجمه عالياً رغم كونه قادم من أقصى الجنوب يحمل مرضاً عضال يجعله في مرمي الإصابة بالتقرح والإجهاد لمجرد وقوفه في الشمس، التي بدلاً من أن تتحول لمصدر الدفء والنور تصبح وحشاً خارقاً يحول دون وصوله إلى مبتغاه أو مكافآته.
لا يبدو الفيلم مخلصاً للشعرية التي تنضح بها حكايته، كأنه يخشى أن يوصم بالنخبوية، فيخلطها بقدر كبير من الميلودراما، سواء عبر الحوار المستمر الذي لا ينقطع ولا يترك فرصة للمتلقي أن يتأمل في ما وراء المعلومة، أو ظاهر الحكاية، كم هائل من الحوار الذي لا يترك مساحة للنظرات أن تحكي ما في الصدور، ولا للأغنيات العديدة بصوت الفتى أن تلقننا ما هو أبعد من حدود الرحلة الجغرافية الضيقة.
صدف بعضها ملفق، كلقاء منير في المستشفى، وبعضها مفتعل، كلقاء لميس الحديدي على بوابة مدينة الإنتاج الإعلامي بعد أن فات موعد برنامج المواهب، إصرار على شرح العلاقات الشعرية بشكلٍ مدرسي، كالحوار بين "ضي" وأخته حول علاقتهما المعقدة بسبب تدليل الأم وكيف أنه يعتبرها هي الليل وهو النهار ويستغرب دوماً من أنها لا تدرك حجم ارتباط العاطفي الأخوي بها ولا مكانتها في حياته!.
حتى عندما يحكي "ضي" عن حرمانه الطويل من أن يرمي أسنانه للشمس الشموسة التي تتحول كما أشرنا من قوى طبيعية إلى وحش مخيف بالنسبة له، ثم يفقد ضرسه في الخناقة المفتعلة، عندما تظن إحداهن أن أمه خاطفة إياه، فبدلاً من أن يحتفظ السيناريو باللحظة الأثيرة التي تمثل ذروة هامة جداً في النهاية لضي وعلاقته بالشمس والحلم، نجده يتعامل معها بصورة مسرحية، حيث يصطف هو وأمه وأخته والمدرسة على شاطئ النيل، وكأنهم في استعراض مدرسي، وتقول له أمه جاهز! فيلقي الضرس إلى قرص الشمس! وتموت اللحظة الشعرية الحلوة التي زاحمها الاصطفاف الزائد عن الحاجة.
الأصوات الطبيعية
الغريب أيضاً أنه في فيلم عن قصة لفتى جميل الصوت لديه إحساس ماسي بالكلمات والألحان الجميلة لمطرب أسطوري نجد شريط الصوت مزدحم بهذا القدر الكبير من الموسيقى التصويرية، هذا شريط صوت لا يعرف فضيلة الأصوات الطبيعية للبيئات المختلفة التي تتحرك فيها مجموعة الرحلة، ولا يعي حجم الصمت المطلوب من أجل إفساح المساحة الشعورية للأغنيات التي تنطلق من حنجرة الفتى في مواقف ولحظات بعينها لتخلق ذكرى شعرية تعطر حركة الأرواح وتهدأ من قلق النفوس وتسحب المتلقي من جفاء الواقع إلى طراوة الحلم والخيال القابل للتحقق أو الخضوع لسطوة الممكن.
منذ المشاهدة الأولى للفيلم، ولا يكاد شريط الصوت يخلو من مقطوعة موسيقية رنانة وميلودرامية ونمطية حتى أن دخول الأغنيات يصبح هو الاستراحة المطلوبة من ضجيج الموسيقى المستمر والمشوش على كل اللحظات الحلوة أو التي تحتاج للهدوء، من أجل تأمل ما هو أبعد من مجرد حدوثها أو تفاصيلها المباشرة.
الشعر والصمت والحكي بالنظرات كلها فضائل غائبة عن التجربة الملفتة والمختلفة، ويكفي أن نضرب مثلاً بالتتابع الخاص برجل الإطفاء المقنع، الذي يحاول مساعدة "ضي" وأخته بتوصيلهما بعربة المطافئ من الأقصر إلى قوص بعد أن تفرقا عن صحبتهم، الأم والمدرسة الرقيقة التي تتعرض لتنمر الأم طوال الوقت في محاولة لتخفيف حدة الصراع وخلق ريليف طريف بالأمثال على لسان الأم والتي تحمل قدراً كبيراً من الخشونة والسخرية.
هذا التتابع مثلاً والذي ينتهي بكشف رجل الإطفاء المقنع لوجهه المحترق، أو حتى تحرره بعد ذلك من القناع بسبب "اللمسة الوجودية" التي حققتها رحلة "ضي" حين تقاطعت مع حكايته، يمكن تقبله بشكل مفهوم وحميمي في المستوى الشعري للحكاية أو في إطار النوع الأقرب لمثل هذه التفاصيل، بينما تسحبنا الميلودراما إلى أرض المبالغات، والتي تجبر المتلقي على تطبيق الواقع على الحدث بصورة ضحلة، مما يفقده اقتناع العقل بدلاً عن رجاحة الشعور الذي لا يشترط منطق حاد للأمور، ولا سبب حقيقي لحركة عربة مطافئ رابضة أمام محطة القطار بدعوى أن هناك حريقاً في بلدة أخرى على بعد 40 دقيقة!
تبقى الإشارة إلى أن رطانة الحوار وكميته، سلبت ممثلة مثل أسيل عمران في دور المدرسة فرصة التعبير الشكلي والملامحي وقلة زلات اللسان الخاصة باللهجة الصعيدية، التي لم تأت سلسة بالقدر الكافي، وبدلاً من أن يبذل الوجه الشاب طاقاته في البوح بالنظرات، استغرقت الممثلة الجميلة في محاولة ضبط اللسان وتخفيف اللغة بالإتقان والتجويد.
أما إسلام مبارك، في دور الأم فهي صاحبة حضور طاغٍ، وهي مخضرمة بالشكل الذي جعلها تقفز فوق هنات أدائية كثيرة سببها الميلودراما السائلة التي بللت مشاهد عديدة بالدموع بدلاً من مقاومة الانهيار بحكم تكوين الشخصية الخشن والمربك في محبته المراوغة وغير المعلنة بصورة طبيعية.
المكسب الحقيقي
ويمكن الجزم بأن المكسب الحقيقي تمثيلياً على مستوى الاكتشاف والحضور وتجاوز اللحظات الانفعالية دون مبالغة وبوعي فطري، هو الممثلة الشابة حنين سعيد، في دور أخت "ضي"، والتي بدا تقمصها، رغم نمطية شخصية الأخت الغيورة نسبياً- محاط بسياج من الانتباه والتركيز والحسبة المنضبطة لنبرة الصوت وتعبيرية الملامح، وهو أمر لا يمكن إغفال التوجيه الإخراجي لكريم الشناوي فيه، وهو ذات التوجيه الذي حقق أداءً متوازن وعفوي بصورة كبيرة للفتى الألبينو بدر محمد في دور "ضي"، خصوصاً مع استخدام الخجل الفطري لدى أعداء الشمس في تهذيب قلة الخبرة للشاب الصغير، وإخفاء عيوب التشخيص بمهارة شديدة خلف قناع النبرة المترددة أو العيون الهاربة من تحديق الآخرين، أو بسبب مشكلات الإبصار المعروفة لدى أعداء الشمس، وكلها ميزات تحسب للمخرج الشاب في ثاني تجاربه التي بلا شك زادت من رصيد خبراته في التعامل مع الشريط السينمائي والحالة الفيلمية، والتي تختلف كثيراً عن التعاطي مع الدراما التلفزيونية، رغم تحققه القوي والبارز فيها خلال السنوات الأخيرة.
* ناقد فني