في عالم السينما السعودية الحديثة، تبرز تجربة وائل أبو منصور، بتجسيد قصة محلية على الشاشة بوعي وشغف الحكّاء.
يروي لنا فيلمه الروائي "صيفي"، المشارك في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، في دورته الرابعة، حكاية ترتحل بنا إلى التسعينيات، حقبة متوترة وخصبة ثقافياً، تعكس أحلاماً وأوهاماً شقّت طريقها بين الأزقة الشعبية وسراديب أصحاب المال والتيارات الدينية.
السينمائيون السعوديون وأعمدتهم الثلاثة:(صحفي، كاتب، مخرج) أرسى وائل أبو منصور دعائمه الثلاثة في تكوين حكايته الروائية الثانية "صيفي"، إنتاج كلّ من: محمد الحمود، وشوقي كنيس والمعتز الجفري، بعد فيلمه الأول "مدينة ملاهي" عام 2020.
يُعيد وائل تأكيد ظاهرة المخرجين السعوديين الذين يكتبون أعمالهم، جاعلاً من نصوصهم امتداداً لرؤيتهم السينمائية، هذه الظاهرة تضفي على السينما السعودية روحاً مستقلة، حيث الكاتب والمخرج يتحدان لرسم عالم موحد. وهو الذي بدأ حياته المهنية كصحفي ميداني في كبرى المؤسسات الإعلامية العربية، حيث التقط بعينه تفاصيل البشر والقصص المختبئة خلف الكلمات. هذا التكوين الصحفي ظهر جلياً في أعماله، في التقاط الجوهر الإنساني في أبطاله.
صيفي: بطل من ورق
"صيفي"، يقوم بدوره الممثل أسامه القس، ابن مدينة جدة وأزقتها الشعبية، صاحب المتجر المتواضع "شريط الكون" ومسؤول عن فرقة شعبية لإحياء الأفراح، يتشبث بالاثنين كأنهما قارب نجاة من طوفان لا يرحم، إذ يجسد تلك المرحلة، بمحاولاته الفاشلة المتشبث بأحلام الثراء السريع، بمزيج من الجدية والسخرية، مررها أسامة بانسيابية شديدة كلما تشابكت خيوط العبثية في نسيج الحكاية. يخفي تصرفاته المترددة واندفاعاته الطائشة التي تقوده دائماً إلى مآزق أكبر، كمن يُحركه توق داخلي إلى الفرار من ذاته أكثر من فراره من خصومه.
"صيفي" هو نتاج عالم يمزج بين السذاجة والحيلة، بين الطموح والانكسار، بين المسالمة والاستسلام والبطولة الزائفة.
منذ لحظة اكتشافه للشريط المسرب الذي يدين رجل المال والسلطة "الشيخ أسعد"، يصبح الشريط مفتاح نجاته ومصدر هلاكه، فهل يسعى نحو الانتقام ممن حاصروه؟ أم أنه يحاول الهروب من صورته التي يراها منعكسة في مراياهم؟.
السعادة.. تعريف أسطوري
"السعادة إحساس مستمر بالهناء والرضا طوال الوقت. تعريف أسطوري، لكنه ضروري. واجب علينا أن نكون سعداء"، هذه الكلمات التي وردت على لسان إحدى الشخصيات، لا تقف عند حدود الفلسفة المجردة، بل تعكس التباساً جماعياً في مفهوم السعادة، التي تبدو كحلم بعيد المنال، بدفع الشخصيات إلى مسارات متناقضة تكشف هشاشتها الإنسانية.
من تلك الشخصيات هي المرشدة الروحية "رابعة" التي بادرت بالسؤال في جلستها التدريبية عن مفهوم السعادة،"رابعة" طليقة "صيفي"، تؤدي دورها الممثلة عايشة كاي، الطامحة للشفاء الروحي، وتتعامل معه كمصدر رزق في منزل للإيجار، تعيش مع شقيقتها الداعمة لها "رابية"، تقوم بالدور الممثلة نورا خضرا، تتجادلان حول تحديد مخاوفهما من الغد، رغم ما يبدو عليها من تبسيط حول الأمان المادي، لغة المخاوف المكررة هي تتويج القدرة على الفهم المتبادل والتكاتف بينهما.
يحاول "صيفي" التكفير عن ذنبه بدفع مشروعهما المنزلي إلى تعاون مؤسسي مع إحدى الجمعيات الخيرية، في مشهد واحد تظهر فيه الممثلة عايشة الرفاعي مسؤولة الجمعية، وهي تحذر بحزم من ممارسات تأهيلية للمقبلات على الزواج بعيدة عن القيم والأعراف الإسلامية، يبرز هذا المشهد السمة العامة لمناخ الترهيب الديني في فترة التسعينيات، التي تدفع بالضرورة إلى الرياء، في الخط الموازي تلمح شخصية "رابعة" الى مخاوفها من عودة صيفي ومقاومتها لمشاعرها نحوه.
عبرت الممثلة عايشة، عن هذا الخوف والتوتر بحصار نفسي وشرود يصعب عليها الخروج منه. كون الفجوة بين صيفي وطليقته لم تكن في جوهرها صراعاً مادياً فقط، كما تحاول شخصيات الفيلم قوله من خلال عبارات شحيحة، بل خزان من الجراح لم تفسر.
الشرعية الضبابية
"مهدي" المستشار الديني للشيخ أسعد ويقوم بدوره الممثل حسام الحارثي، يمكن وصفه في سياق الفيلم المسؤول عن خيوط اللعبة، كونه أداة للنفوذ، مستخدماً سلطته المزدوجة في تقديم صورة القداسة وخدمة مصالحه الشخصية.
أما"زرياب" الذي يؤدي دوره الممثل براء العالم، نجد أنه لا يمثل في الفيلم مجرد عضو في فرقة تُحيي حفلات الزواج. هو كائن مهمش يحمل في داخله صراعاً نفسياً وفلسفياً عميقاً بين الولاء والخيانة منذ البداية.
في هذه الثنائية، يظهر "زرياب" على أنه شخص متردد في سعيه نحو الحفاظ على مكان يهيمن عليه "الشيخ مهدي"، يضغط "زرياب" على "صيفي"، طالباً منه تسديد المستحقات المالية للفرقه، يتأرجح بين العطف على "صيفي" والخوف من فقدان مكانه في شبكة السلطة المترابطة حول "مهدي" و"الشيخ أسعد".
وهذا التردد ليس محض صراع نفسي عابر، بل هو صراع وجودي. تعزز ذلك في مشهد خاطف يفضح ضآلة ذاته وتضخم إحساسه بالذنب، خلال محاولاته البائسة لإطفاء حريق من خلال تعبئة الدلاء من مياه البحر، "زرياب" لا يواجه "صيفي" بشكلٍ مباشر أو علني، بل يختار الخفاء والتمويه كوسيلة لإدارة اللعبة، وهو ما يعكس فلسفة التجنب التي تتأصل في البشر عندما يواجهون مأزقاً بين الحب والصالح الشخصي.
أما "صيفي" بملابسه المبقعة بعد نجاته من معارك عنيفة وهروب مستمر، يتجاوز الواقع الذي يعيشه من خلال المناورة الذكية بين أصدقائه وأعدائه و زوجته السابقة، محاولاً الحفاظ على علاقة مقبولة مع الجميع في الوقت ذاته. لكن هذا السعي لا يضمن له الراحة النفسية، حيث يبقى الثالوث (صيفي، زرياب، مهدي) في النهاية أسرى للشرعية الضبابية التي تفرضها الأوضاع المحيطة.
ما كان وما هو كائن
الانتقال من عالم الأشرطة إلى رائحة الزفر في سوق السمك يُظهر "صيفي" قسوة الواقع الذي لا يرحم، حيث يُجبر على الإذعان لمقتضيات العيش اليومية التي تتعارض مع حلمه في أن يصبح شخصاً ذو قيمة أعلى.
لا تتسم لغة جسد "صيفي" في السوق خلال التعاطي مع الزبائن، بالسأم أو الخنوع، بل بفرط الحركة! هذا النشاط الزائد هو دفع لحيوية الشعور الهارب من مواجهة الفجوة الوجودية بين "ما كان" و"ما هو كائن"، ولكن هذا التجاوز للنفس لا يكون دائماً على النحو الذي يراه الإنسان في خياله.
ففي مواجهة الزفر، لا يستسلم تماماً، بل يحاول أن يجد له مكاناً جديداً في عالم يتطلب منه التكيف مع مكوناته والحدود التي يضعها أمام نفسه.
لعبة الأبعاد البصرية والنفسية
يستغل أبو منصور الأزقة الشعبية في جدة كخلفية لأحداث الفيلم، موثقاً نبض المكان والزمان.
في المكونات البصرية تتناغم الألوان والإضاءة، فتستخدم المساحات المظلمة لتخلق هالة من الغموض في المواقف التي يواجه فيها "صيفي" أزمة الوجود، مثل اختباءه في السيارة، أو تنكره بالنقاب، بينما تغمر الإضاءة أماكن الحلم والتطلع حيث تلتقي الشخصية مع رغباتها خاصة في منزل الشقيقتين، هذه التنقلات بين الظل والنور تتوازى مع تطور الأحداث وتكشف عن التضارب بين الأماني الشخصية والواقع الذي لا مفر منه.
ألوان الفيلم تتماوج بين دفء الأماكن الشعبية وبرودة اللحظات المليئة بالمطاردة والخطر. هذا التناقض يعكس صراع الشخصيات بين أحلامها وواقعها.
تبرز المشاهد مع تناقض مثير بين البيئة الشعبية والموسيقى التصويرية الغربية التي وضعاها "مايك وفابيان كورتزر" في إضافة نكهة خاصة على المطاردات.
تكمل الحكاية بمزيج من النغمات الغربية والمحلية، وكأنها ترجمة موسيقية لتناقضات الشخصيات بين الأصالة والمعاصرة.
فحين تتصاعد الموسيقى في النهاية، فإنها لا تحاكي انتماء المكان أو الهروب منه، بقدر ما تقفز على أزمات الشخصية وجموحها.
رحلة دون وجهة واضحة
تبرز شخصيات فيلم "صيفي" وهي محمّلة بالضبابية، كونها تفتقر إلى الجذور التي تمنحها عمقاً واستمرارية. فبعد مشهد الحريق لا نرى التحولات على مسببيه أو متضرريه، بل أغلقت دائرة المشاهد حول "صيفي" فقط، كما يظل الخلاف بين "رابعة" و"صيفي" كجرح مفتوح بلا تفسير، بلا جذور واضحة، وكأن الحكاية تمضي في مسارها دون الالتفات إلى الأسباب التي تشعل جذوة الصراع.
ورغم تنوع الشخصيات وتشابك علاقاتها، إلا أن أبعادها تظل غائمة، إذ تبدو شخصيتي "رابعة" و"رابية" كقطع من لوحة فسيفسائية لم تكتمل معالمها، مما يترك تساؤلات عالقة عن دوافعهم وقراراتهم.
يبقى الفيلم مليئاً بالصور الغنية واللحظات الأدائية المؤثرة وخفيفة الظل. قد تفتقر القصة إلى اكتمال البناء، لكن عالمها السينمائي يحمل روحاً إبداعية، تضع وائل أبو منصور في مصاف المخرجين السعوديين الذين يساهمون في تشكيل هوية سينمائية محلية و جذابة.