"وحدة" فادية التنير تبعث الحياة في مسرح بيروت بعد شهور من التوقف

ملصق إعلاني لمسرحية "وحدة" لرائدة مسرح المقهورين اللبنانية، فادية التنير - الشركة المنتجة
ملصق إعلاني لمسرحية "وحدة" لرائدة مسرح المقهورين اللبنانية، فادية التنير - الشركة المنتجة
بيروت-رنا نجار

بدأ المسرح في لبنان في العودة تدريجياً بعروض حية، أبرزها مسرحية "وحدة" لرائدة مسرح المقهورين فادية التنير، التي أقامت  ثمانية عروض للمسرحية داخل بيتها في بيروت.

وبدأ إغلاق المسارح في لبنان منذ "ثورة 17 تشرين" في 2019 وأطال أمده انتشار وباء كورونا، والأضرار الجسيمة التي لحقت بمسارح بيروت جراء انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2020.   

ومنذ أسبوعين تقريباً، عاد النبض إلى بيروت بعروض مسرحية ورقص معاصر وموسيقى لعلي شحرور وحنان الحاج علي ورندة الأسمر وستيفاني كيال وعبد قبيسي، بينما تجري تحضيرات في الوقت الراهن لإطلاق عروض جديدة للكل من فرقة "مترو المدينة" والمخرجة لينا أبيض وشادي الهبر وفرقة "لبن".

ومن المقرر أيضاً أن يعاد عرض مسرحيات شهيرة في مسارح بيروت، من قبيل "جوغينغ" التي قدّمت في أكثر من عشر بلدان حول العالم ونالت جوائز عالمية. 

مسرح في البيت 

وتميزت عودة المسرح بثمانية عروض لمسرحية "وحدة"  للمسرحية المخضرمة فادية التنير، بين 28 مايو 6 يونيو، بمعدل عرضين يومياً.  المسرحية لقيت إقبالاً واسعاً. وفاق عدد حجوزات الحضور توقعات التنير، ما اضطرها لإضافة عرض أخير  يوم 10 يونيو الجاري.

واختارت التنير تقديم العرض في بيتها الذي ولدت فيه ويقع في شارع عمر بن الخطاب في منطقة "رأس النبع" في أحد الأحياء العريقة من غرب بيروت، وهو ما أثار إعجاب الجمهور، الذي تهافت لمشاهدة عمل مسرحي يقدم للمرة الأولى في بيت ويتناول الوحدة.

جانب من الجمهور أثناء متابعته فادية التنور وهي تؤدي مسرحية
جانب من الجمهور أثناء متابعته فادية التنور وهي تؤدي مسرحية "وحدة" داخل بيتها في بيروت - الشرق

المسرحية تحكي عن الوضع المترنّح بين الانهيار والسقوط الحرّ، وبين ذكريات مدينة بيروت بين الحياة والغياب، وتبوح بسرد سلس ومشوّق بذكريات المدينة وتحوّلاتها المعمارية والثقافية والعلائقية الانسانية منذ الستينات وصولاً الى الحرب الأهلية وما بعدها.

المسرحية تتناول أيضاً انفجار المرفأ والحجر المنزلي الذي عمّق الوحدة وجعل بطلة المسرحية "تتآخى مع مرآتها وتُصبحان صديقتين حميمتين"، كما جاء في نص المسرحية.

كل هذه الثيمات ترويها التنير في عرض حكواتي مونودرامي مشبّع بالعواطف والحميمية، عبر ذكريات عائلة فاديا التنير الصغيرة البيروتية المتوسطة الحال التي تحب المسرح والموسيقى وأصيبت إحدى بناتها (حنان) بمرض سبّب لها فيما بعد تأخراً عقلياً.   

تقول التنير: "أصبح البيت عالمنا خلال الحجر، هو مكان العمل والمسرح والترفيه والرياضة والعزلة، وهو وُلد من رحم العزلة التي تفاقمت خلال الحجر مع أنني أعيش وحيدة في هذا البيت الكبير والقديم منذ توفيت أختي حنان في العام 2009".

وأضافت: "عرضي يتحدث عن كل ذلك وعن ذكرياتي في البيت وفي بيروت الموجودة في كل زاوية من زواياه، وعن علاقتنا بالمكان الذي لا نعرف متى سنخسره إما بسبب قوانين الإيجارات أو بسبب الهدم العشوائي للمباني القديمة واستبدالها بعمارات شاهقة بلا هوية تتبع مزاجية المقاولين ونسبة أرباحهم". 

سكّان الصور

يبدأ العرض بحكايا بيروت القديمة وكورنيشها ومسارحها ودور السينما عبر صور فوتوغرافية قديمة توزّعها بطلة العرض ومخرجته وكاتبته، حيث نتعرف على حنان التي "علّمتها الحرية والتكرار والفرح والصبر" كما تقول، ثم ننتقل لملاقاة الأم والأب والخال الذي كان يعيش في البيت نفسه.

بدأت من الصورة التي "توثّق اللحظة لكنها في الوقت نفسه خائنة لأننا لا يمكن سماع صوت سكان هذه الصور ولا شمّ رائحتهم خصوصاً الذين رحلوا"، تقول التنير بحسرة خلال العرض. 

انعكاس وجه رانية التنور في المرآة، إلى جانب صور قديمة لعائلتها، خلال عرض مسرحية
انعكاس وجه رانية التنور في المرآة، إلى جانب صور فوتوغرافية قديمة، خلال عرض مسرحية "وحدة" - الشرق

تمضي التنير بالحاضرين من غرفة إلى غرفة ومن حكاية إلى أخرى عبر مراحل زمنية مختلفة، ثم تتوقف عند الشرفة حيث كانت حنان الطفلة تقضي معظم وقتها بالغناء والرقص على إيقاع جملة "مجنونة مجنونة" التي يردّدها أولاد الحيّ على مسمعها يومياً من دون تعب أو كلل، لتتحدث عن تجربة الطفلة.

تُضيء التنير من خلال عرض "وحدة" الذي كتبته وأخرجته وأدّته وحدها، على قضية وجود ذوي الحاجات الخاصة في المنزل خصوصاً في ستينات وسبعينات القرن الماضي، يوم لم تكن لهم مدارس خاصة وكان المجتمع ينكرهم.

"حنان التي عانت حتى مماتها من تأخر عقلي علّمتني الكثير أولاً الحرية ثم الغناء والضحك وتشارك المرح والسعادة مع أشخاص نحبهم، كما علّمتني التكرار الذي استخدمته في أدوات المسرح لاحقاً، كما منحتني مهارات التعليم عندما علّمتها كيف تكتب وكيف ترسم، فالعرض أساساً كان مكتوب عن حنان الموجودة في قلبي حتى الآن وعن قضية هؤلاء الناس الذين لا يعرف المجتمع قيمتهم"، كل ذلك تسرده الحكواتية بحسرة ودمعة خجولة تحبسها في عيونها.

زيارة مُفتقدة

 تروي التنير ذكرياتها الحميمة مع أمها وأبيها وأخواتها والجيران والمرضعة أم حسين في حيّ متنوّع تسكنه طوائف وطبقات اجتماعية مختلفة، معرّجة على القاهرة وتونس المدينتين الأحب على قلبها بعد بيروت. وكان لها في القاهرة وتونس عروض وذكريات مسرحية وعائلية.

جانب من عرض مسرحية
جانب من عرض مسرحية "وحدة" - الشرق

تقول التنير إنها أرادت من خلال "وحدة" أن "تحكي وتبوح عن قصص خاصة عائلية وقصص عامة تربطها بمدينتها، عن الخوف والألم والفرح والضحك والقصف والانهيار الاقتصادي، عبر تشغيل حواس المشاهد الخمس، فهو يسمع ويرى ويلمس ويشمّ رائحة الحبق التي هي رائحة أمي. وفي النهاية يتذوّق الجلاب والحلوى".

وتضيف: "أعتبر هذا العرض بمثابة الزيارة التي كنا نقوم بها للأصدقاء والأقارب والأحباب حيث نضّيف الزائر أطيب ما لدينا، وهي عادة حُرمنا منها بعد كورونا".

يذكر أن فادية التنير هي واحدة من مؤسسي فرقة الدمى اللبنانية وعملت مع أشهر المخرجين اللبنانيين منذ تخرّجها من معهد الفنون المسرحية يالجامعة اللبنانية مثل فائق حميصي وروجيه عساف وعلّة الخالدي والدكتور بطرس روحانا والراحلة سهام ناصر ورويدا الغالي وكريم دكروب، إضافة الى عملها مع مخرجين روس. 

الناس والوطن

تعليقاً على المسرحية، تقول المخرجة والأستاذة الجامعية عليذة الخالدي  إنه "ومنذ 2019 ، لم أشاهد أي عرض مسرحي حيّ، لكن عرض وحدة كان أجمل طريقة للعودة إلى المسرح بعد سنة وسبعة أشهر من وقوع المسرح ضحية الوضع الاقتصادي وجائحة كورونا".

وأضافت: "الدخول إلى حياة فادية المسرحية أفضل عودة لأن الغضب لا يزال متمسكاً بي، ولا يمكنني نفضه من مزاجي، وفادية بصدقها وشفافيتها كانت مثل الأم الحنون التي مسكت يدي وأعطتني صفاء كنت محتاجة إليه من خلال مسرحة حياتها وعلاقاتها ببيتها والاشخاص الذين عاشوا فيه والحيّ الذي تعرعت فيه (..) هذا هو المسرح: البيت والناس والوطن".

كل بيوت بيروت

أما الكاتبة نسيم علوان فعلقت على المسرحية بتدوينة على فايسبوك، جاء فيها: "لم ندخل إلى بيت فادية اليوم بل إلى كل بيوت بيروت، وبيوتنا، عبرنا من خلال دموعها التي بللت محجرها، إلى أرواحنا التي عانقت أرواح ساكني البيت الذين كانوا هنا في زمان مضى ثم استقروا صور على منضدة يبتسمون لكل زائر دخل بخفة إلى عالم فاديا".

وأضافت: "رأينا البحر والمسارح وطرقات بيروت التي قادتنا إليها فاديا الصغيرة المدللة... رأينا الأب وحنان وأم ترافق طفلتها إلى كل مكان. سمعنا صخب حياة وطرطقات صحون ورنين ضحكات".