حصاد 2024: روائع وفواجع سينمائية! (2-2)

مشهد من الفيلم الهندي All We Imagine as Light خلال عرضه بمهرجان الفيلم الدولي بمراكش - المكتب الإعلامي للمهرجان
مشهد من الفيلم الهندي All We Imagine as Light خلال عرضه بمهرجان الفيلم الدولي بمراكش - المكتب الإعلامي للمهرجان
القاهرة-عصام زكريا*

من بين عشرات الأفلام التي شهدها 2024، فيما يلي عدد آخر من الأعمال التي تستحق المشاهدة، حسب ظني، بالتأكيد ليست هذه كل حصيلة العام، ومن المسلمات أن هناك أفلاماً أخرى لم أشاهدها، وأفلاماً قد تكون أفضل من وجهات نظر أخرى، وأفلاماً تستحق الكتابة عنها فيما بعد.

The Brutalist

من المؤكد أن The Brutalist للمخرج برادي كوبرت واحد من أهم الأفلام الأميركية في 2024، ولكن هذا يعكس في تصوري تواضع المستوى هذا العام، مثلما يعكسه اعتبار Anora وThe Substance من أفضل أفلام العام. وليس معنى ذلك أنهما فيلمين سيئين، ولكن يعني أن هناك خلطاً، وخطلاً واضحاً في الفيلمين بين الفن السينمائي والترفيه التجاري.

لا يعاني The Brutalist من هذه "الخلطبيطة"، فهو عمل محدد وعالي الطموح، ينتمي إلى نوعية لا يجيد أحد صنعها مثل الأميركان: سيرة فرد على مدار فترة تاريخية طويلة، تنعكس من خلالها دراما شخصية قوية، وفي الوقت نفسه تاريخ أميركا الاجتماعي والسياسي، حيث يؤثر كل منهما (السيرة والتاريخ) على الآخر، ويتضافران في نسيج روائي واحد.

هذه السيرة قد تكون لشخصية حقيقية، وقد تكون لشخصية خيالية، كما في حالة The Brutalist، ولعل أشهر مثال على الحالة الثانية هو فيلم Forrest Gump الذي أخرجه روبرت زيميكس ولعب بطولته توم هانكس، 1994. وبالمناسبة التقى كل من زيميكس وهانكس مجدداً هذا العام في فيلم بديع لم يلق حظَّه من التقدير النقدي أو الجماهيري، ربما لخلطه بين الاعتماد على المؤثرات البصرية (تخصص وهوس زيميكس) وبين الدراما الإنسانية الفلسفية.

جانب من فريق عمل فيلم The Brutalist خلال مهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا. 1سبتمبر 2024
جانب من فريق عمل فيلم The Brutalist خلال مهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا. 1سبتمبر 2024 - Reuters

يفهم برادي كوبرت جيداً طبيعة النوع الذي ينتمي إليه The Brutalist، إذ يشيّدُ فيلمه كبناء ملحمي كلاسيكي، حيث تحظى كل شخصية وكل حدث بمساحة كافية ووظيفة درامية مؤثرة، ومما يزيد هذا عمقاً أن بطل الفيلم مهندس معماري (يؤدي دوره أدريان برودي) يسعى كوبرت لبناء فيلمه معمارياً بشكل موازٍ، ومندمج، مع ما يشيّده البطل نفسه من أبنية.

من هنا، فمن المنطقي أن يصل زمن عرض الفيلم إلى 215 دقيقة (ثلاث ساعات ونصف الساعة وخمس دقائق!)، حتى أن صنّاع الفيلم قاموا بتقسيمه إلى جزئين بينهما استراحة زمنها ربع ساعة.

Director Robert Zemeckis and cast member Tom Hanks attend a premiere for the film 'Here' during AFI Fest at TCL Chinese theatre in Los Angeles, California, U.S., October 25, 2024. REUTERS/Mario Anzuoni
المخرج الأميركي روبرت زيميكس، والنجم توم هانكس  خلال حضورهما مهرجان AFI في مسرح TCL الصيني في لوس أنجلوس، كاليفورنيا، الولايات المتحدة، 25 أكتوبر 2024 - Reuters

جدير بالذكر هنا المقارنة بين The Brutalist، وفيلم فرانسيس فورد كوبولا الأخير Megalopolis، وهو عمل شديد الطموح فنياً خانه التوفيق لعدة أسباب، أعتقد أن أبرزها هو أن كوبولا، مخرج الملاحم التي تزيد على ثلاث ساعات، خشي على ما يبدو من أن يكون فيلمه مملاً، فقام باختصار زمنه إلى 138 دقيقة، مما أخل بايقاع الفيلم وأحدث كثيراً من الفجوات غير المشبعة درامياً وإنسانياً.

يذكّر The Brutalist بفيلم آخر هو Oppenheimer لكريستوفر نولان. كل منهما حول مهاجر أوروبي هارب من النازية عبقري في مجاله. يتشابه الاثنان في بنائهما وفقاً لعمل وعقل البطل.

لكن فيما يركز Oppenheimer على التاريخ الرسمي (الحقيقي)، يركز The Brutalist على الجوانب غير الرسمية: البؤس وخيانات الأقارب والمقربين والطبقية والاستغلال والعطب النفسي للشخصيات.

يستحق The Brutalist أن يشاهَد، وأن يحظى بالتقدير، ولكن ذلك لا يمنع من إبداء عدد من الملاحظات حول مضمونه، لعل أبرزها تأكيد "المظلومية اليهودية"، والمساواة بين ما يتعرض له بطله، وما يتعرض له الأميركان الأفارقة من عنصرية وقهر.

All We Imagine As Light

إذا كان The Brutalist لا يمكن صنعه سوى في أميركا، فإن هذا الفيلم لا يمكن صنعه سوى في بلاد العالم الثالث؛ تحفة إنسانية واقعية من الهند بتوقيع مخرجة ومؤلفة شابة، اسمها بيال كاباديا، تذكّر بروائع ساتياجيت راي وميرنال سين، من مؤسسي الواقعية الهندية، المختلفة والمعارضة لنظام بوليوود ضخم الإنتاج الاستعراضي، والترفيهي، والهروبي.

All We Imagine As Light يعكس أيضاً واقعية جديدة، نسوية، تحمل حساسية أنثوية، وإنسانية مميّزة. مثل كثير من هذه النوعية، يدور الفيلم حول النساء الفقيرات المستضعفات، اللواتي يعانين الضيم الاقتصادي والاستعلاء الذكوري، ويبيّن كيف أن التضامن النسائي وحده، هو الكفيل بمقاومة هذه الأوضاع.

يروي الفيلم قصة ثلاث صديقات في مومباي: الأولى ممرضة في مستشفى عام تزوجت من شخص لا تعرفه يعمل في ألمانيا، جاء مرة واحدة إلى الهند ليتزوجها، ثم عاد إلى ألمانيا وانقطعت أخباره.

جانب من فريق عمل فيلم All We Imagine As Light يفوز بالجائزة الكبرى من مهرجان كان السينمائي في نسخته السابعة والسبعين في فرنسا. 25 مايو 2024
جانب من فريق عمل فيلم All We Imagine As Light يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي خلال نسخته الـ77 في فرنسا. 25 مايو 2024 - Reuters

أما الثانية، شابة تقيم مع الأولى في حجرتها، وهي أكثر تحرراً وتفتحاً، تقع في حب شاب مسلم، ويبحث الاثنان عن أمْكنة يستطيعان فيها الاختلاء.

بينما الثالثة طبَّاخة بالمستشفى تتعرض للطرد من بيت الفقراء الذي تسكن فيه، حيث يسعى أحد رجال الأعمال لهدمه وبناء ناطحة سُحب.

رغم ما ينطق به الفيلم من بؤسٍ شديد، لكنه يشيع بالحب والأمل، ورغم أنه يصوّر الحياة في بومباي، وداخل بيوت البؤساء بعينٍ واقعية صارمة، لكن لغة الفيلم السينمائية شديدة الفنية والجمال.

The Apprentice

هذا فيلم مختلف، سيرة شخصية هجائية للرئيس الأميركي السابق، والمنتخب مؤخراً دونالد ترمب، من إخراج الدنماركي الإيراني علي عباسي.

يركز الفيلم على بدايات ترمب وتتلمذه على يد محامٍ اسمه رون كوهين، حيث تلقّى دروساً من نوعية: "عليك أن تدّعي دائماً أنك الفائز"، و"أن تكون قاتلاً خير من أن تكون قتيلاً"، و"العب بالخصم وليس بالكرة"، و"ليس هناك صواب أو خطأ، ليس هناك أخلاق. كل هذه أوهام. هناك فقط فائزون وخاسرون".

الفيلم كتبه الصحافي المعروف جابريل شيرمان، صاحب الكتاب الشهير The Loudest Voice in the Room، الذي يكشف فضائح مدير محطة فوكس السابق روجر أيلز، والتي تحوّلت لمسلسلٍ ناجح من بطولة راسل كرو.

يبدأ  The Apprentice بعام 1973، وينتهي مع بداية الثمانينيات وتولّي الرئيس رونالد ريجان الحكم، وهو بالمناسبة صاحب شعار: "لنستعيد عظمة أميركا من جديد" الذي تبنّاه ترمب في جملته الانتخابية.

ويبين الفيلم جانباً من المخالفات القانونية والأخلاقية التي ارتكبها ترمب برعاية أستاذه كوهين، حتى أصبح واحداً من كبار المليونيرات، وفي النهاية يتخلّى عن أستاذه حين يصاب بالإيدز.

الفيلم، الذي عُرض لأول مرة في مهرجان "كان" في مايو الماضي، تعرَّض لحملة لمنْع عرضه على يد ترمب وأنصاره، ولم يُعرض سوى في نطاق ضيّق، ولكنه يستحق أن يشاهَد جداً، ليس فقط لموضوعه الجريء والحقائق التي يكشفها، ولكن أيضاً لأنه ممتع فنياً، وبه أداء تمثيلي ممتاز من سباستيان ستان في دور ترمب، وجيرمي سترونج في دور رون كوهين، وماريا باكلوفا في دور إيفانا ترمب.

One to one: John & Yoko

هذا أفضل فيلم وثائقي شاهدته في 2024، وواحد من أفضل أعمال السنة بشكل عام، إذ يرصد الفترة الأخيرة من حياة المغني والمؤلف الموسيقي جون لينون، وزوجته يابانية الأصل يوكو أونو، في أميركا، مع التركيز على الحفل الكبير الذي شاركا فيه، وحمل عنوان: One to One، والمتاعب التي تعرَّضا لها بسبب مواقف لينون الرافضة لحرب فيتنام والسياسات الاستعمارية والرأسمالية عموماً، وصولاً إلى اغتياله المروِّع على يد واحدٍ من المهووسين في 1980.

يحمل اسم اثنين كمخرجين: الموهوب كيفين ماكدونالد، المتخصص في الأفلام التاريخية السياسية مثل The Last King of Scotland وThe Mauritanian، مع المونتير سام رايس- إدواردز.

الفيلم يعتمد بالأساس على عنصر المونتاج، حيث تم الاستعانة بعشرات الساعات من التسجيلات، من بينها تسجيلات محادثات هاتفية تُسمَع لأول مرة استطاع صانعا الفيلم الحصول عليها، كما استطاعا إعادة بناء الشقة التي كان يسكنها لينون وأونو، مما ساهم في بث مزيد من الحياة في المادة الأرشيفية.

صورة جماعية لجانب من فريق عمل فيلم One to One John & Yoko في مهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا. 30 أغسطس 2024
صورة جماعية لجانب من فريق عمل فيلم One to One John & Yoko في مهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا. 30 أغسطس 2024 - Reuters

وأجمل ما في One to One أنه لا يكتفي برصد حياة بطليه، بل يرسم صورة نابضة بالحياة لأهم الأحداث والشخصيات السياسية والاجتماعية التي شهدتها بداية السبعينيات.

برغم الفارق الكبير بين The pprentice، وOne to One، لكنهما يشكلان معاً لوحة بانورامية لتاريخ الولايات المتحدة في السبعينيات، وصولاً إلى الثمانينيات، وهي الفترة التي تشبه ما يجرى في العالم الآن إلى حد مذهل، خاصة بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض!

فيلم التحريك Flow 

وأخيراً، هذا أفضل فيلم تحريك شهده 2024. تحفة من طراز فريد بتوقيع صانع أفلام التحريك القادم من لاتفيا جينتس زيلبالوديس (الذي صنع منذ عدة أعوام فيلم Away).

المدهش في Flow أنه مصمم بالكامل بواسطة الكمبيوتر على طريقة ألعاب الفيديو، ولكن هذه التقنية الباردة تتحول هنا إلى فن رفيع من خلال عمل درامي متماسك مبهر بصرياً، بالرغم من أنه لا يحتوي على كلمة حوار واحدة!

على مدار نحو ساعة ونصف، يتتبع الفيلم مصير قطة صغيرة عقب حدوث فيضان هائل يودي بحياة البشر، ولا يبقى سوى بضعة حيوانات تتناحر، وتتعايش فيما بينها.

الفيلم مصنوع كما لو كان لقطة واحدة، تتحرك فيها الكاميرا (الافتراضية) بلا توقف، تتجول يميناً ويساراً وتصعد وتهبط في كل الاتجاهات والزوايا، راسمة الحكاية والعالم من زوايا كثيرة بعضها لا يخطر على البال.

ومثما كان فيلم The Matrix، 1999، حدثاً في طرق تصوير الأفلام الروائية، أتصور أن Flow سيصبح حدثاً في مجال صُنْع الأفلام بواسطة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي!

*ناقد فني.

تصنيفات

قصص قد تهمك