في هوليوود، حيث تتغير الأضواء كما تتغير الفصول، وحيث يصعد نجم، ويخفت آخر في طرفة عين، يبقى أدريان برودي حالة لافتة ومميزة في مسيرة السينما، حيث بدا وهو يحمل جائزة الأوسكار الثانية له أشبه بمن عبر النهر مرتين، مرة كفائز شاب، ومرة كرجل تمرس على المسافات الطويلة، وعاد ليؤكد أن السينما لا تنسى من يهبها روحه.
وسط تصفيق حار وترقب كبير، اعتلى أدريان برودي مسرح الأوسكار للمرة الثانية في مسيرته، ليحصد جائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم الملحمي The Brutalist، من إخراج برادي كوربيت.
بهذا الفوز، انضم برودي إلى نخبة من الممثلين الذين فازوا بهذه الجائزة مرتين، مثل مارلون براندو، جاك نيكلسون، شون بن، وتوم هانكس، بينما يبقى دانيال داي-لويس الوحيد الذي فاز بها 3 مرات.
يأتي هذا التتويج بعد أكثر من عقدين من فوز برودي الأول في عام 2003 عن The Pianist، عندما دخل التاريخ كأصغر ممثل يفوز بجائزة أفضل ممثل رئيسي في عمر 29 عاماً، وسط منافسة شرسة مع جاك نيكلسون، ودانييل داي لويس، ومايكل كين، ونيكولاس كيج.
خلال كلمته المؤثرة هذا العام، بدأ برودي حديثه بالتعبير عن امتنانه للحياة والمسيرة التي منحته هذه الفرصة، مؤكداً أن "التمثيل مهنة هشة، قد تبدو ساحرة في بعض اللحظات، لكنها قد تختفي في أي وقت"، ثم أضاف: "ما يجعل هذه الليلة مميزة بالنسبة لي هو إدراكي لهذه الحقيقة، وامتناني العميق لأنني ما زلت قادراً على ممارسة العمل الذي أحبه".
لم يكن حديثه مجرد استرجاع لمسيرته، بل حمل رسالة قوية عن أهمية مواجهة العنصرية والتطرف، حيث قال: "أنا هنا مرة أخرى أمثل آثار الحروب، والاضطهاد المنهجي، ومعاداة السامية، والعنصرية، وكل أشكال التمييز.. أدعو لعالم أكثر صحة وسعادة وشمولاً، وأؤمن بأن التاريخ يعطينا درساً واحدًا واضحاً: لا يجب أن نترك الكراهية تمر دون مواجهة".
في الفيلم، يجسد برودي دور "لازلو توث"، المهندس المعماري الذي يهرب من المجر إلى الولايات المتحدة، حيث يحاول بناء حياة جديدة، لكنه يجد نفسه في مواجهة تحديات غير متوقعة عندما يحصل على فرصة لبناء مشروع معماري ضخم لصالح رجل أعمال ثري في بنسلفانيا، بينما ينتظر وصول زوجته وابنة أخيه.
بفوزه الثاني، يضع أدريان برودي اسمه جنباً إلى جنب مع بعض أعظم ممثلي السينما، ليؤكد مجدداً قدرته على تقديم أدوار تحمل أبعاداً إنسانية عميقة، ومعالجة قضايا لا تزال تؤرق العالم.
البحث عن الأثر
وُلد أدريان برودي في 14 أبريل 1973 بمدينة نيويورك، ونشأ في بيئة تجمع بين الفن والثقافة، حيث كانت والدته المصورة سيلفيا بلاشكو ووالده أستاذ التاريخ الهنجاري إليوت برودي، منذ طفولته، أبدى اهتماماً واضحاً بالتمثيل، فشارك في عروض مسرحية مدرسية، قبل أن يلتحق بمدرسة Fiorello H. LaGuardia، التي تخرج منها العديد من النجوم البارزين.
واصل برودي صقل موهبته بالدراسة في American Academy of Dramatic Arts، حيث بدأ في تشكيل أسلوبه التمثيلي القائم على التقمص العميق والالتزام التام بالشخصيات التي يجسدها.
كان أول ظهور سينمائي لأدريان برودي في الفيلم التليفزيوني Home at Last، عام 1988، ولكن في السينما كان الظهور الأول في فيلم New York Stories عام 1989، وهو فيلم يضم 3 أفلام قصيرة أخرجها وودي آلن، وفرانسيس فورد كوبولا، ومارتن سكورسيزي، لكن بدايته الحقيقية جاءت عام 1993 عندما شارك في فيلم King of the Hill للمخرج ستيفن سودربيرج، حيث لفت الأنظار بأدائه المميز.
لاحقاً، بدأ برودي في الحصول على أدوار أكثر أهمية، حيث شارك في أفلام مثل Angels in the Outfield (1994) وBullet (1996) إلى جانب مغني الراب توباك شاكور، غير أن انطلاقته الكبرى جاءت عام 1998 عندما قدم أداءً قوياً في فيلم The Thin Red Line للمخرج تيرينس مالك، حيث جسد شخصية جندي في الحرب العالمية الثانية ضمن طاقم تمثيلي حافل بالنجوم.
كان هذا الفيلم خطوة مهمة نحو الاعتراف بموهبته، لكنه لم يكن سوى تمهيد لدوره الأسطوري في The Pianist (2002)، الذي منحه شهرة عالمية وجائزة الأوسكار، حيث قدم واحدة من أعظم الأداءات في تاريخ السينما، مجسداً شخصية عازف البيانو البولندي فلاديسلاف شبيلمان، الذي يواجه وحشية الاحتلال النازي في وارسو خلال الحرب العالمية الثانية.
خسر برودي وزناً كبيراً، انعزل عن العالم، وعاش في عزلة نفسية تشبه عزلة الشخصية التي لعبها، عندما وقف على مسرح الأوسكار ليصبح أصغر ممثل يفوز بجائزة أفضل ممثل، لم يكن مجرد فوز، بل شهادة على موهبة نادرة.
لكن برودي لم يكن أسير هذا الدور، بل أثبت أنه قادر على التنقل بين عوالم مختلفة، وتنقل بين أدوار تختبر قدراته كممثل، محاولاً دائماً التمرد على القوالب الجاهزة في هوليوود، في King Kong (2005)، لعب دور جاك درايسكول، الكاتب الذي يجد نفسه في مواجهة وحشية الطبيعة على جزيرة الجمجمة، في تجربة جمعت بين المغامرة والرومانسية، وأظهرت جانبه الأكثر حساسية أمام وحشية العالم.
أما في The Darjeeling Limited (2007)، فقد أبدع في تقديم شخصية بيتر ويتمن، الأخ الذي يرافق شقيقيه في رحلة روحية عبر الهند، ضمن فيلم مليء باللحظات الإنسانية العميقة والسخرية الهادئة، بأسلوب المخرج ويس أندرسون الذي أتقن برودي التأقلم معه لاحقاً في The Grand Budapest Hotel (2014) في دور دميتري، الوريث الجشع الذي يحمل كاريزما قاتلة، ثم في Asteroid City (2023).
لم يكن برودي بعيداً عن الإثارة أيضاً، ففي Predators (2010) جسّد شخصية المرتزق رويس، في إعادة إحياء لسلسلة أفلام الخيال العلمي الشهيرة، مقدّماً نسخة أكثر تعقيداً لبطل الأكشن المعتاد، بينما في Detachment (2011)، عاد إلى الدراما الاجتماعية بدور معلم بديل يعاني من العزلة في نظام تعليمي قاسٍ، في أداء منحه إشادة نقدية كبيرة، وفي نفس العام، أدهش الجمهور بتجسيده الساخر لشخصية الرسام سلفادور دالي في Midnight in Paris (2011).
أما في مسلسل Houdini (2014)، فقدم سيرة ذاتية مبهرة عن الساحر هاري هوديني، بأسلوب جعل الشخصية تتجاوز مجرد خفة اليد إلى عمق الصراع النفسي والبحث عن الحقيقة.
وفي Blonde (2022)، ظهر في دور آرثر ميلر، الكاتب الشهير الذي عاش علاقة مضطربة مع مارلين مونرو، ليقدم صورة جديدة للرجل الذي وقف خلف أسطورة.