مهرجان أفلام سعودية.. كثافة التجارب وتحديات التصنيف

جانب من حفل ختام الدورة الحادية عشرة لمهرجان أفلام السعودية، الظهران، السعودية، 23 أبريل 2025 - المكتب الإعلامي للمهرجان
جانب من حفل ختام الدورة الحادية عشرة لمهرجان أفلام السعودية، الظهران، السعودية، 23 أبريل 2025 - المكتب الإعلامي للمهرجان
الرياض -نور هشام السيف

اجتمع مؤخراً صناع الأفلام السعوديون والخليجيون مجدداً، تحت سقف مهرجان أفلام السعودية في دورته الحادية عشرة، أقيم المهرجان بتنظيم من جمعية السينما، وبالشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء"، وبدعم من هيئة الأفلام.

جاءت الدورة  هذا العام في ظاهرها استمراراً لخط تصاعدي يسعى لترسيخ مكانة المهرجان، كمحطة سنوية رئيسية في خارطة السينما المحلية، أما في باطن التجربة، فظهرت ملامح أكثر تعقيداً، كشفت عن النجاحات والهوامش التي ما زالت بحاجة لإعادة النظر.

من الإشارات المضيئة هذا العام، العروض الموازية التي خصصت للسينما اليابانية وأفلام عربية تحت مسمى "سينما الهوية"، هذه المبادرة كانت بمثابة فصل دراسي مفتوح للناشئين، تتيح لهم رؤية نماذج متنوعة لكيفية بناء فيلم قصير مركز وفعال.

مع ذلك، لا تزال مشكلة استيعاب قواعد الفيلم القصير حاضرة بقوة بين بعض صناع الأفلام المحليين، كثير من المشاركات في المسابقة القصيرة كشفت عن التباس في فهم طبيعة هذا الشكل: الفيلم القصير ليس نسخة مصغرة من الفيلم الطويل، بل عمل مستقل بقواعده الخاصة، يعتمد على الاقتصاد السردي، وقوة الإيحاء، والقدرة على اختصار العالم في دقائق معدودة.

في الجانب التقني، هناك تحسّن واضح طرأ على جودة الإنتاجات، خصوصاً في مستوى الصوت والصورة والإضاءة، وهو أمر يمكن ملاحظته مقارنة بدورات سابقة، هذه التحسينات تعكس تطوراً تدريجياً في وعي المخرجين بالعناصر الفنية المتكاملة للعمل السينمائي، لكنها لا تلغي الحاجة إلى دعم أفضل في مجالات كتابة السيناريو، وتكوين الشخصيات، وبناء الحدث الدرامي بمهارة.

معهد "سين"

أما الخطوة البارزة التي رافقت فعاليات المهرجان هو تدشين معهد "سين" للتمثيل  في سينماتيك الخُبر، ويعد أول معهد متخصص لتعليم فن التمثيل بالسعودية بإدارة المخرج مجتبى سعيد،  افتتاح المعهد والتعرف على مساراته يمثّل إشارة عملية نحو تحرك المهرجان من مجرد منصة عرض، إلى كونه طرفاً فاعلاً في بناء كوادر الصناعة، خطوة تبدو صغيرة لكنها تحمل قيمة استراتيجية، خصوصاً إذا قُرن نشاط المعهد بتطوير مستمر للمناهج والأساليب.

على جانب آخر، كان سوق الإنتاج علامة فارقة هذا العام، فبخلاف عادته السنوية في إدارة ندوات منوعة و توقيع كتب سينمائية  احتفى سوق الانتاج بتوزيع أكثر من 2.5 مليون ريال على مشاريع مختلفة، و أثبت أنه ليس مجرد نشاط موازٍ، بل جزء حقيقي من صناعة الفرص السينمائية الجديدة.

الدعم تنوع بين تمويلات مباشرة و خدمات إنتاجية وموسيقية وتسويقية، مما فتح آفاقاً جديدة أمام المشاريع الصغيرة التي غالباً ما كانت تجد صعوبة في تجاوز مرحلة الفكرة إلى مرحلة التنفيذ.

ومع ذلك، وبين هذه المظاهر الإيجابية، بدت الحاجة إلى نقد هادئ للخيارات الفنية والبرمجية حاضرة، انطلاقاً من محبة حقيقية لهذا الكيان، ورغبة أن يرى فيه الجميع منصة تتقدم بثقة، لا تتعثر بتكرار بعض الإشكالات.

من بين هذه الإشكالات هو التفاوت في فرص عرض الأفلام، فقد حصل فيلم "ثقوب" على 3 فرص عرض موزعة على أيام المهرجان، بينما فيلم "أناشيد آدم"، الذي فاز بجائزة أفضل فيلم روائي خليجي طويل، عُرض في توقيت متأخر قبل يوم من ختام المهرجان.

ربما كانت هناك حسابات تنظيمية أو برمجية خلف هذه الفروقات، لكنها أضعفت فرصة بعض الأعمال المهمة في الوصول إلى جمهور أوسع، وفوتت فرصة أن تناقَش هذه الأفلام بشكل أعمق داخل جلسات النقاش أو اللقاءات الجانبية

تجارب متباينة في السرد

يؤكد المهرجان دائما أنه الخيمة التي تظلل التجارب الأولى والبيت الذي يعود له مخرجيه في تجاربهم الثانية والثالثة، سأتوقف عند عملين  يعودان للمخرج خالد زيدان و المخرجة جواهر العامري لبروز اسميهما في خارطة التجارب السينمائية المحلية،  بعد حصولهما على تكريمات وجوائز في تجاربهما الجادة، (حصل فيلم "انصراف" على تنويه و "ميرا ميرا ميرا" على جائزة أفضل فيلم روائي قصير).

"ميرا"،  بمباشرته منذ البداية ومضمونه التأملي، يقف أمام تحديات الفكرة و نسجها في مشهدية البطل المأزوم، بينما "انصراف" يُجسد تجربة مكثفة تختزل لحظة تحول إنسانية كبيرة ضمن قالب سينمائي واضح وموجز.

خالد وجواهر، ممتلئان بالحصاد في أعمالهما البكرية، فكيف تبلورت تجاربهما الثانية والثالثة؟، وما الذي تقوله لنا هواجسهم الفنية في أعمالهم الطازجة؟.

خالد زيدان، الاسم الذي لم يعد غريباً على خريطة الأفلام القصيرة السعودية، يعود بتجربته الروائية الثانية "ميرا ميرا ميرا" بعد أن حقق فيلمه السابق "عثمان" حضوراً لافتاً في محافل السينما القصيرة محلياً وعالمياً. 

ما يثير الدهشة في هذه العودة ليس مجرد الرغبة في تطوير تجربة ناضجة، بل المفارقة الواضحة أن  فيلم "عثمان" بدا أكثر اكتمالاً وعمقاً، رغم أن مخرجه حينها لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، بينما يأتي "ميرا ميرا ميرا" أكثر تذبذباً على مستوى النضج، وإن ظل محافظاً على شكل البناء الفني للفيلم القصير.

"ميرا ميرا ميرا"

يحكي "ميرا ميرا ميرا"  تأليف عبد العزيز العيسى عن قصة رجل متزوج  يدعى سعيد يقوم بدوره الممثل إسماعيل الحسن، يعيش في حي متهالك  مهدد بالهدم، منذ اللحظة الأولى، يختار الفيلم الإفصاح عن جوهر عقدة الشخصية مباشرة: رجل يعاني من اضطراب نادر في النطق، لا يستطيع سوى قول كلمة واحدة: "ميرا".

هذه الحقيقة تكشف لنا عبر بحثه الإلكتروني في جوجل عن "أسباب فقدان النطق الجزئي"، قبل أن تناديه زوجته، تقوم بدورها سارة طيبة، من الصالة، لتواجهه بكلمات متلاحقة وغاضبة تسأله عن هذه الـ"ميرا" التي لا ينفك بتردد اسمها.

يذهب الفيلم في مسار خطي، يكشف لنا يوم شخصية سعيد، الذي يعمل خياطاً نسائياً ويواجه مواقف محرجة ومربكة، يلتقي بالمساء بأخيه يؤدي الدور الممثل "خالد يسلم"، ويذهب معه إلى طبيبة نفسية، لتشرح له ولنا بطريقة تقليدية  أن هذا قد يكون مصاب بمرض نادر يجعله غير قادر على نطق سوى كلمة واحدة وضربت مثالاً عن حالة أمريكية مشابهة.

يمنحك هذا المشهد التبريري كمُشاهد، أن يكون هذا التفسير مجرد محطة أولى ضمن حبكة أكثر تعقيداً أو انقلاباً، لكنّ الفيلم يظلّ وفياً لهذا التفسير حتى النهاية، المشهد الختامي يعيد تأكيد التشخيص: تقرير تلفزيوني يُعرض أمامه، يروي قصة فتاة شابة تعاني الحالة ذاتها، وتقول "ميرا ميرا ميرا" فقط، وأثناء مشاهدة التقرير تتصل الطبيبة بالبطل وتعاتبه: "ليش ما ترد؟ شفت التقرير؟".

وهنا يظهر التناقض الأكبر في منطق الحكاية: كيف تعاتب طبيبة مريضها الذي لا يستطيع الحديث؟، ولماذا لا ترسل له رسالة نصية، كما نفترض أنه يستطيع التعامل مع الوسائط المكتوبة؟، أسئلة كثيرة لا تجيب عليها اللغة الباردة التي صيغت بها هذه المكالمة، بل تتكئ فقط على ضرورة الانتهاء من توصيل المعلومة.

ومع ذلك، فإن ما يجعل "ميرا ميرا ميرا" جديراً بالوقوف عنده، والسبب في فوزه بجائزة "النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي قصير"، هو احترامه لشروط الفيلم القصير: التركيز، البناء المحكم، الاقتصاد في الزمن والمكان، ووضوح الذروة والانعطافة، يعرف زيدان كيف يُبقي زمنه تحت السيطرة، كيف يرسم ملامح شخصية بعينها دون تفريعات زائدة، وكيف يوصل فكرته (حتى وإن كانت مباشرة) في 20 دقيقة.

ربما يفتقر الفيلم إلى عمق المفارقة أو الذكاء في التورية، لكنه يعوّض ذلك بانضباط واضح في السرد، وبراعة في إدارة الممثل، إذا كانت هذه التجربة قد تراجعت خطوة إلى الوراء على صعيد الجرأة والتأويل، فإنها بالمقابل تثبت أن زيدان يمتلك أدوات الصنعة، ويبني أفلامه على أرضية تقنية صلبة، وربما هذا ما يُبقي الأمل قائماً في أن العودة المقبلة ستكون أكثر توازناً بين الرؤية والبناء.

"انصراف"

في فيلمها القصير "انصراف"،  والذي سبق وعرض في مهرجان القاهرة السينمائي وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، تسلط المخرجة جواهر العامري الضوء على لحظة درامية شديدة التوتر، تدور أحداثها في بيئة مدرسية، مبنية على قصة حقيقية متناولة مواضيع الموت، الفقد، وردود الفعل الجماعية تجاه الصدمات.

يحكي الفيلم قصة فتاة مراهقة تعيش صدمة فقدان زميلتها في المدرسة، حيث تقرر المعلمة كسر هذا الفقد العاطفي، كخطوة تربوية، أن تُجري تطبيقاً عملياً طقوس الغسل والكفن أمام الطالبات وتعليمهن التسليم بالموت وقبول القضاء والقدر.

إلا أن هذه الفكرة، التي تحمل في طياتها نوايا تربوية إيجابية، تؤدي إلى نتائج عكسية؛ إذ تُحوِّل الساحة المدرسية إلى مسرح من التوترات النفسية والتمرد الجماعي.

التفاصيل السردية في "انصراف" تقدم دراسة دقيقة للبيئة الاجتماعية، مع التركيز على الديناميكيات النفسية بين الطالبات والمعلمات.

استفادت جواهر من وجود ممثلات مثل غادة عبود، وعائشة الرفاعي، وكان قرار المخرجة بجعل الطقوس الجنائزية مشهداً محورياً يعكس شجاعة في معالجة موضوع حساس، حيث تحول التوتر الناتج عن هذه التجربة إلى شرارة دفعت الطالبات للتمرد ضد السلطة المدرسية، يطرح تساؤلات عميقة حول الطرق التربوية وتأثيرها النفسي على الأجيال.

ورغم أن الفيلم يتسم بالإيجاز، إلا أن السرد كان محكماً، حيث استفادت المخرجة من كل دقيقة لخلق تأثير درامي، ساعدت الإضاءة الباهتة والألوان المحايدة على تعزيز الشعور بالكآبة والضغط النفسي، بينما لم تلعب الكاميرا دوراً حيوياَ كافياً في نقل الاضطراب الداخلي للطالبات بل سرعت الأحساس من خلال لقطات مقربة وحركات ديناميكية تُحاكي التوتر، في حين أن ملامح  البطلة "الجادل" تقوم بالدور الممثلة الناشئة رجاء لم تجسد تعابير توتر التصاعدي بشكل متقن. 

اختارت جواهر للأسلوب التوجيهي في ختام ثورتها الفكرية، يبدو "انصراف" ظاهرياً  فيلم عن الموت أو المدرسة، بينما هو الطريقة التي تترابط بها المؤسسات الاجتماعية مع المشاعر الفردية والجماعية في لحظات الأزمات، خاصة أن نقطة الانتقال بين الخوف والمواجهه الحادة شملت كل المسكوت عنه في مشهد حوار الطالبة والمعلمة، وذلك بسرد وقائع واضحة وصريحة تحمل في طياتها الرفض والتمرد واللوم والاتهام، تلاها أغنية أفسدت الرسالة التي تم إيضاحها واستيعابها بالفعل.

“فيلمنا لم يصور بعد" 

في الحفل الختامي، وكما جرت العادة، ألقى مؤسس ومدير المهرجان، الشاعر أحمد الملا، كلمته التي حملت في طياتها وفاءً لمسيرة المهرجان وأحلام صناع السينما كلمة شعرية بطبيعتها، لكنها تحمل واقعاً حقيقياً: أن السينما السعودية لا تزال في طور التشكل، وأن كل دورة من هذا المهرجان تضع حجراً إضافياً في بناء صناعة نريد لها أن تكون أكثر نضجاً واستقلالية.

في المحصلة، جاءت الدورة الحادية عشرة لمهرجان أفلام السعودية لتؤكد أن المهرجان يواصل تطوره، ولكنه لا يزال بحاجة إلى تعزيز وضوح معاييره، و تحقيق توازن أكبر في ترشيحاته، وتطوير آليات تصنيفه للمشاركات بما يدعم التميز ويحفز الجودة. 

يمضي المهرجان بخطوات يواكبها صناع ومحبي السينما، و يعلقون عليه آمالاً كبيرة، ويحتفي معهم بمحبة صادقة.

تصنيفات

قصص قد تهمك