خاص
فن

"الحياة بعد سهام".. ماذا لو كانت حياتنا فيلماً؟

مشهد من الفيلم الوثائقي "الحياة بعد سهام" للمخرج نمير عبد المسيح - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
مشهد من الفيلم الوثائقي "الحياة بعد سهام" للمخرج نمير عبد المسيح - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
القاهرة -رامي عبد الرازق*

يتمكن المخرج المصري نمير عبد المسيح في فيلمه الوثائقي "الحياة بعد سهام"، الذي عرض ضمن برنامج ACDIE خلال فعاليات الدورة 78 لمهرجان كان السينمائي، بحساسية براقة وعفوية تجمع ما بين الطفولي والفطري، ومحبة جارفة للسينما تكاد توازي محبته لـ"سهام" أمه الراحلة، من الإمساك بمحاولة جادة ومؤثرة للإجابة على سؤال طالما أرقه وأرق الكثيرون من محبي الفن الجامع لكل ما سبقه من فنون؛ لو أن الحياة كانت فيلماً، هل توجد فرصة إذن لإعادة التصوير؟.

التجربة التي استغرق إعدادها ما يقرب من 10 سنوات- يفصح فيها نمير عن جانب من أزمته الوجودية ليس فقط تجاه السينما! بل تجاه الحياة نفسها، هذا الأزمة التي ظن أنها بدأت عقب رحيل أمه في فرنسا عام 2015، ولكن رحلة صناعة الفيلم في محاولة إعادة إحياء الأم، وضعت أمام عدسة الكاميرا التي تتأرجح ما بين الذاكرة والوعي، أو بين الماضي والواقع؛ حقيقة أن الأزمة سابقة على رحيلها- الذي لم يكن الرحيل الأول كما تبين له- وأنه لكي يستوعب أنها لم تعد موجودة بجسدها أن يعيد بعثها مرة أخرى عبر الحكايات والصور ومقاطع الأفلام، والتي أصبحت تشكل الحضور المجازي – بل والحقيقي- للمرأة الأسطورية في حياته؛ "سهام".

 علاج للذاكرة 

من الصعب أن يلخص أحدنا حكاية هذا الفيلم!

فبعد رحيل "سهام" والدة نمير التي شاركته بطولة فيلمه السابق "العذراء والأقباط وأنا" عام 2011، لا يجد سوى السينما لكي تواسي مشاعر الفقدان الرهيبة التي عانى منها، وتحفظ للأم وجودها الأثيري كجزء من حياتهم التي استمرت عقب غيابها الساخر- في البداية حين يريد أن يعلن لنا معلومة وفاتها نراها وهي جالسة في طائرة تحلق عالياً، تقرأ الجرائد كأنها تطلع على أخباره وأخبار العالم من تحتها ،كما كانت تداعبه قائله عندما ذهبت يوم أن تم تشخصيها بالمرض الذي أودى بحياتها.

يفتتح نمير الفيلم بحضور ساحر لسهام/الأم والصديقة وصاحبة الفضل الإبداعي الكبير على مسيرته الفيلمية، ثم نراها في كادر واسع وهي تمضي مولية إياهم وإيانا ظهرها، ثم نرى جنازتها وجسدها الهش يرقد في التابوت الأنيق، وبينما تحدث الكاميرا في وجه نمير- الذي استدعى أحد أصدقائه لتصوير الجنازة- ويبدو أنه أدرك ساعتها أن رقدتها في التابوت ليست هي الصورة التي يريد أن يتذكرها بها، أو يستدعيها بها أحفادها الصغار، وأن هناك من الحكايات والمواد المصورة ما يجعلها أكثر نصاعة في الذاكرة، وأكثر حضورها حتى من وقت أن كانت بينهم بجسدها الذي رحل ومرض، دون روحها القوية التي التقطتها الكاميرا، فبقيت.

"هل عندك علاج للذاكرة؟".. يقول "وجيه" والد نمير وهو يتجاوز الثمانين من عمره، الذي لم يظن أن يطول به كل هذا الأمد، كان يتصور أنه سيرحل قبل زوجته الحبيبة.

فيرد نمير : الحاجة الوحيدة اللي عندي هي الكاميرا، حوار ذي كده- يقصد جلسته مع أبوه- لو نسيناه! بعد 20 سنة هيبقى قاعد متسجل، ده قصدي يعني!

يكشف هذا الحوار، ضمن مجموعة حوارات ،و محاورات متكررة عبر الفيلم تجمع الأب والابن سوياً في حديث عن الأم الغائبة، أن نمير يضع الكاميرا كواحدة من الإجابات الجازمة، التي تخص سؤال الحياة والسينما!

الكاميرا، التي ترصد وتلتقط وتسجل كل التفاصيل والإيماءات والأحاديث الجانبية والأزمنة الضعيفة، هي أكثر من مجرد ذاكرة، بل هي علاج للذاكرة، الكاميرا بطبيعتها التقنية والمجازية ضد النسيان، بل وضد التغاضي أو التحلل، بل وتتجاوز الكاميرا لدى نمير المُنَتج المباشر لها، أي الفيلم أو الصورة، لما هو أبعد وأعمق من هذا، فعندما يبدأ في الجلوس مطولاً مع أبيه من أجل أن ينعش ذاكرته البشرية المهمشة- تحت وطأة العمر أو الأسرار- لا يحتار في العثور على مادة مصورة لما يرويه الأب عن حياته حين بدأت قصته مع سهام، بل يستدعي قناع سينمائي شديد القوة والمتانة المجازية، مشاهد من أفلام يوسف شاهين التي تدور في نفس الحقبة التي التقى فيها الأب بالأم قبل أن يصير أباً وقبل أن تصير أماً، وذلك بناء على اختيار الأب نفسه لنجد نمير في حساسية مونتاجية تعيد إنتاج مادة أفلام "فجر يوم جديد" و"عودة الابن الضال" بسيناريو مأخوذ أو مركب على حياة "وجيه" و"سهام"، وكأنه يستعيض عن غياب الأرشيف العادي أو الطبيعي بأرشيف أكثر رهافة ودسامة بل وربما قرباً من الأحداث الحقيقية التي يرويها الأب، اعتقاله في الستينيات ثم إطلاق سراحة ولقاءه بالأم وهجرته إلى فرنسا ولحقاها به.

بل أن نمير نفسه يعيد إنتاج ذاته وقت أن كان صغيراً متخذاً نفس القناع السينمائي، بإعادة تشكيل مشاهد الطفل الصغير من فيلم "فجر يوم جديد"، لتحكي جانباً من علاقته بأمه بعد أن أخرج حكاية تركها له من شرائط ذاكرة الأسرة الأب والعمة والخالات- صانعاً انعكاس درامي شعري ورائع بين هجرها له وهو صغير بسبب العودة إلى فرنسا مع الأب متخففين من حمله المادي والمعنوي – لم يكونا مؤهلين آنذاك لاستقبال وتنشأة طفل في المهجر- وبين رحيلها الجسدي بالموت بعد أن كانا على ما يبدو يعدان سوياً مشروع فيلمه الجديد.

دراما الأجيال

لا يتخذ نمير من فيلم "عودة الابن الضال" عباءة بصرية لحكاية أباه وأمه – "وجيه" هو "علي" و"سهام" هي "فاطمة"، وحكاياتهم المغزولة بخيط من السليولويد- بل يتجاوز الأستعارة المباشرة إلى مجاز أكثر عمقاً، ففيلم "عودة الابن الضال" يتحدث تحديداً عن ثلاثة أجيال، جيل الأب محمد المدبولي (محمود المليجي)، وجيل الابن علي (احمد محرز)، وجيل الحفيد إبراهيم (هشام سليم).

وبالمثل، نجد "الحياة بعد سهام" يتحدث عن جيل الأب وجيه، والذي هاجر مطروداً من بلده لأسباب سياسية، وجيل الابن نمير، الذي نشأ في المهجر، وجيل الأحفاد أبناء نمير، الذي يكسب حضورهم الواقع الأسري بنبرة مستقبلية دافئة تمجد الاستمرار والتفتح، في مقابل جهامة الغياب وقتامة الافتقاد للأم/الجدة العزيزة، التي نراها في اللقطة المكررة لذهابها مولية الكاميرا ظهرها، بل يختصر نمير كامل العلاقة بين جيل الجد وجيل الحفيد في اللقطة التي يسقي فيها كل منهم الزهور على قبر الجدة، والزهور كالأطفال رمز لاستمرارية الحياة في لون جديد أكثر بهجة من رخام شاهد القبر الأسود.

ولا يبتعد فيلم "فجر يوم جديد" عن نفس الصياغة المجازية الخصبة التي يكسو بها نمير فيلمه، لكنه يركز أكثر على تفاصيل العلاقة بين وجيه الذي يتجلى في شخصية طارق(سيف عبد الرحمن)، وسهام التي تقدم في صورة نائلة(سناء جميل)، ويكفي أن نشير إلى تلك الحكاية الخرافية التي يحكيها الأب عن زيارتهما لبرج القاهرة وتعطل المصعد الخاص به واضطرارهم للنزول على السلم إلى الأسفل واستغلال الأب لهذه الخلوة الإجبارية من أجل تقبيل الأم مرات لا تحصى، هذه الحكاية ترد بنفس الهيئة الرومانتيكة في الفيلم المنتج عام 65، عندما يذهب طارق ونايلة إلى البرج فيجدان المصعد معطل ويقرران أن يصعدا آلاف السلالم إلى أعلى على اقدامهم، متحدين قوانين الجاذبية والمجتمع – الذي يشدهم لأسفل بحكم التفاوت الطبقي والأجتماعي بل والعرقي بينهم- ليجد المتلقي نفسه أمام حيرة ممتعة حول أيهما استقى الحكاية من الآخر، هل استوحاها الفيلم الكلاسيكي من حدوتة عاطفية تشبه حكاية وجيه وسهام، أم أن ذاكرة الأب دمجت ما بين الفيلم وبين قصته مع سهام، فظن أن ما حدث على الشاشة هو الذي عاشه وليس أبطال يوسف شاهين؟

لا يفسر لنا نمير هذا الأمر، بل يترك سحره يسرى في تلقينا لجدلية العلاقة بين السينما والحياة، وبين المتخيل والمعاش، وبين وجيه وسهام الواقع وطارق ونايلة القناعين اللذان يحملان خلفهم أكثر من الواقع نفسه؛ الوجود.

قبر وشاشة

ربما يبدو "الحياة بعد سهام" مختلفاً بصورة واضحة عن تجربة نمير السابقة "العذراء والأقباط وأنا"، ولكن ثمة عناصر أسلوبية أو شعورية لا يترك نمير نفسه كي ينفلت منها، بل يعيد إنتاجها كأنما عن وعي أو قصدية، فكما كانت شخصية الأم/العذراء هي محور أساسي من محاول فيلمه السابق فإن الأم/سهام هي أيضاً منطلق فيلمه الجديد وركيزته النفسية والفكرية، وفي مقابل العلاقة الغائرة في وجدان العالم بين الأم وابنها – إيزيس وحورس ومريم والمسيح- لدينا نفس الرابط الأثيري في إسقاطه على العلاقة بين نمير وسهام، ولكن بشكل معكوس فالمسيح رحل قبل أمه التي شهدت على أحداث نهايته، ولكن في تجربة نمير الأم هي التي رحلت قبل وليدها الصغير. 

وكما كانت قرية الأم هي مسرح الأحداث الرئيسي في الفيلم السابق، يعود نمير إليها في هذه الفيلم، ليقتفي اثرها عبر الحكايات الشفوية وما تبقى من صور ومجازات، تحاول بناء دائرة من استمرارية الذكرى تتصل فيها جذور الأم في الصعيد بفروعها في فرنسا بشكل لا نهائي، يحاول من خلاله أن يضمن بقاء سيرتها حاضرة ما بين مسقط رأسها ومحط جسدها الأخير.

ولكن يزيد على التجربة الجديدة حضور ثنائية الأب والابن – كما نراهما على بوستر الفيلم- وهي الثنائية المقدسة التي لا تنفك تتجلى في عشرات القصص التراثية والدينية والاجتماعية، حيث يدرك نمير أن قدرته على الحفاظ على ثنائية الأم والابن تحتاج إلى ما يدعمها في التجربة الجديدة، وأن أباه الذي لم يكن حاضراً في التجربة السابقة، يتقدم هذه المرة ليصبح دليلاً أو – منتور بلغة الدراما الإغريقية- ليأخذ بيد نمير عبر رحلته إلى حياة سهام قبل نمير.

وكما يحدثنا وديع سعادة عن محاولة استعادة شخص ذائب، يبذل نمير جهداً تحفيزياً كبيراً أمام الكاميرا وخلفها، من أجل أن يفتح له أباه شاشات ذاكرته، كي يرى تجليات الأم المنعكسة عليها في حياتها المبكرة، متجاوزاً الحالة الفردية أو الموقف الشخصي إلى موقف وجودي وفلسفي أكثر عمومية وتماس مع الوجدان الجمعي للمشاهدين.

فحين يطلب نمير من الأب أو يوجه كلمه إلى أمه الغائبة، يقوم بتقسيم الشاشة إلى نصفين في واحد منهم نرى وجيه وهو يتحدث إليها في غيابها، وفي الآخر نرى أمه في لقطة أرشيفية من تصويره، بينما يقوم بمونتاج الفيلم وكأنه يحاول إيصال صوت وجيه الأب إلى سهام الأم في عالمها البعيد القريب.

أو كأن الشاشة تجمع بينهم بدلاً من القبر الذي يفرقهما.

ولما كانت الشاشة تنبص بكل ما هو هو ومتحرك وحيوي ومستعاد وباق، يتجلى لنا هنا مجازها العميق، فالشاشة هي الحياة، والفيلم يحكي عن "الحياة بعد سهام"، أو على حد قول نمير الحياة بعد سهام وبعد وجيه وبعد نمير وبعدنا كلنا. 

ربما ندرك أن الحياة ليست فيلماً يمكن إعادة تصوير أجزاء منه مرة أخرى، لكنها تحتوي بالفعل عما يجعلها تنبض بشكل مستمر، نبضاً لا يكل من الحركة ولا يخفت مع غياب أو موت، وأن السينما – أو لنقل الفنون- هي واحدة من أكثر العناصر التي يمكن أن تجعل دائرة الحياة تتحرك في لانهائية عظيمة، لأنها أكثر من مجرد ذاكرة، بل هي وجه آخر من وجوه الحياة الرائعة، وهي التي على حد ما نسمع من نمير في تعليقه الأخير تجعلنا نشعر بأننا (كنا هنا.. وكان هذا جميلاً).

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك