الزرفة، كما تتداول في اللهجة المحلية، تحيل إلى حركة خاطفة ومباغتة، تبدو في ظاهرها عشوائية، لكنها كثيراً ما تنطوي على طرافة أو مناورة ذكية.
"الزرفة" أحد الإنتاجات السينمائية السعودية الحديثة والذي لازال يحصد، حتى كتابة هذه السطور، أرباحاً هائلة في شباك التذاكر تتجاوز 20 مليون ريال، العمل هو من تأليف ابراهيم خير الله وإخراج محمد القرعاوي بتعاون مشترك بين أفلام الشميسي و تلفاز 11، وبدعم من صندوق big time.
تم تصوير الفيلم بالكامل في مدينة الرياض، متنقلاً بين عشرة مواقع على مدار 32 يوماً، وقد أضفى هذا الانتشار المكاني حيوية على التصوير، ويسمح بتكوين مشاهد منفتحة بصرياً، ولا يمكن إنكار تحقيقه حضوراً جماهيرياً لافتاً في أيامه الأولى، ما جعله حتى اليوم محور نقاشات متباينة في أوساط المتلقين.
تدور أحداث فيلم "الزرفة" حول ثلاثة شباب سعوديين: حمد (أحمد الكعبي)، معن (محمد شايف)، وسند (حامد الشراري)، يعملون في مطاعم تابعة لشركة كبرى في مدينة الرياض، تجمعهم صداقة بسيطة في بيئة عمل رتيبة، حتى يكتشفوا وجود جوهرة ثمينة "الرشرش الذهبي" محفوظة داخل متحف خاص يعود ملكيته لرجل الأعمال عبد اللطيف الهنهوني (إبراهيم الخير الله).
مع تصاعد الحماس بينهم، تتطور فكرة سرقة إلى خطة تنفيذية، يُلقى القبض عليهم، ويزج بهم في سجن شديد الحراسة، وهنا تبدأ القصة في أخذ منحى مختلف ومتشابك، مليء بالمواقف العبثية داخل بيئة السجن، ومحاولات للتأقلم مع واقعهم الجديد، يتخللها إعداد خطة للهروب.
ابراهيم خير الله
ينتمي إبراهيم الخير الله، والذي شارك بشكل أساسي في العمل من حيث التمثيل والتأليف والإنتاج التنفيذي، إلى جيل الكوميديا السعودية الذي صعد مع منصات التواصل الاجتماعي، ومع تراكم خبراته ساهم في إنتاجات جماهيرية ناجحة، فشخصية عبد اللطيف الهنهوني التي يجسدها داخل الفيلم تجمع بين الكاريكاتير الصريح و النبرة الساخرة من سلطة زائفة.
وإذ يدمج إبراهيم من خلالها ثلاث وظائف داخل الفيلم – ممثل، كاتب، منتج – يُفتح السؤال حول الأثر البنائي لهذه المنظومة المركبة: هل سهّل هذا التداخل ضبط نبرة الفيلم على إيقاع موحّد؟ أم أن الفيلم أصبح أقرب إلى استعراض لشخصية خير الله، حيث ينتقل أسلوبه من المسرح إلى السينما دون تعديل كافٍ يواكب شكل الحكاية السينمائية الطويلة.
من جانب آخر قدمت الممثلة أضواء البدر دوراً لافتاًً، يجمع بين الجدية المهنية و الانفعال اللحظي، الشخصية حيث وُظف دورها كعنصر داعم دائم لحضور شخصية الهنهوني، سواء في مشاهد المكتب أو ضمن تصاعد الأحداث داخل السجن.
بدا أداء أضواء منضبطاً ومضبوطاً بإيقاع واضح، لا تنجرف نحو المبالغة رغم ميل بعض المشاهد للكاريكاتير، و اتسم حضورها بوضوح الدور الوظيفي: الحضور الصامت في بعض اللحظات، والانفعال الدقيق في اللحظات الحوارية، ما أضاف لمسة انضباط وسط بيئة من الشخصيات المتناثرة زمنياً ومكانياً.
من يمثل ومن يُعاد تدويره؟
يقدم العمل توليفة من اختيارات الممثلين خلطة عبارة عن: نجم مصري معروف، مشاهير التيك توك وممثل أمريكي "روبرت نيبر" تكرس هذه الخلطة توجهاً إنتاجياً يراهن على تركيبة واضحة تجمع بين الخطاب الكوميدي المحلي والطابع الترفيهي التجاري السريع. صندوق "بيج تايم"، باعتباره أحد الممولين والمنفذين الرئيسيين للعمل، يبدو منصباً على صياغة منتج سينمائي يوجّه أساساً لجمهور سعودي شاب، يبحث عن الترفيه السريع، مع لمسات خفيفة من المغامرة والفكاهة.
وفي هذا الإطار، يظهر خيار الاستعانة بممثل أجنبي بملامح مألوفة كوسيلة لتوسيع جاذبية الفيلم، لا فقط في دور العرض المحلية، بل أيضاً أمام شركات التوزيع ومنصات البث الرقمي.
طبيعة المشروع تميل إلى بناء قصة بسيطة قابلة للاستهلاك الجماهيري السريع، دون تعقيد في الحبكة، ولهذا يصبح وجود وجه أجنبي معروف (رغم عدم أهميته في أوساط هوليوود) وسيلة لتزيين المنتج ببُعد عالمي شكلي، يساعد في حملات التسويق، وصياغة بوسترات جذابة، وربما فتح نوافذ عرض في أسواق إقليمية أو على المنصات الإلكترونية.
المسألة تتعدى حدود الحبكة إلى ما يُشبه الصياغة التسويقية المتعمدة: عمل سريع الإيقاع، قريب من المزاج المحلي، مدعّم بوجه غربي من خلفية تلفزيونية ليعطي انطباع الانفتاح والتجديد.
لكن، هل طور هذا النمط من الاستقطاب البراق ليقدّم حضوراً درامياً عضوياً أكثر رسوخاً؟ أم سيظل جزءاً من حيلة ترويجية تكميلية، تُدرج ضمن معادلات الجذب السريع في السينما التجارية السعودية الصاعدة؟
تأتي دفعة التساؤلات بعد أم صدر الفيلم نوعاً من الكوميديا اللحظية، التي تتغذى على ردود الفعل والمفارقات السريعة أكثر من اعتمادها على بناء درامي ناضج، الحوار يتكئ على التعليقات الساخرة، والمواقف الكوميدية تُبنى بطريقة قريبة من "إسكيتشات يوتيوب"، حيث لا حاجة إلى تسلسل، بل تُقدّم الفكرة مباشرة في صورتها الأكثر خفّة.
مرجعيات الثقافة الشعبية
اعتمد الفيلم على مرجعيات الثقافة الشعبية: اللهجات المحلية المنوعة، الميمات المتداولة، والمقولات التي عرفها الجمهور من التلفزيون والإعلانات، هذه العناصر تولّد الضحك الفوري، لكنها لا تخلق عمقاً عاطفياً أو تحولاً سردياً.
الممثلون طاقة كوميدية واضحة، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، لكن الأداء في مجمله يدور في منطقة واحدة. شخصيات تتكلم بالطريقة ذاتها، تنفعل بالطريقة ذاتها، وتضحك من الأسباب ذاتها، لا فروقات ملموسة تُميّز الشخصية عن الأخرى في العمق، بل فقط على السطح.
إذ افتقد السيناريو إلى مسار درامي واضح، تتوالى المشاهد كمجموعة مواقف بلا تدرج درامي، ولا رابط سببي بينها، فلا نشاهد تطور فعلي في الشخصيات، ولا تصعيد في الأحداث، كل مشهد يعمل كجزيرة مستقلة، ما يُفقد الفيلم تماسكه البنائي وأصبح المتلقي يتساءل أين كنت وأين أصبحت؟
غاب التوتر وأصبح الإيقاع مستوياً، فلا توجد ذروة درامية حقيقية تفضي إلى نهاية، الأمر بدا وكأن الحكاية تتحرك بدافع التسلية وحدها، دون غاية أو تحوّل.
يخرج المتلقي بمحصلة لا جدال فيها عن تمتع الفيلم بصناعة بصرية متقنة، فهو ملون بإضاءة ساطعة، و زوايا تصوير واسعة تدعم التكوين و جو الكوميديا المطلوبة، المشاهد الداخلية للمؤسسة داخل المكتب وفي المتحف الخاص والممرات، مع توظيف واضح للإضاءة واللون لخلق مناخ مريح بصرياً، الكاميرا تتحرك بانسيابية، وتخلق فراغاً واسعاً ينسجم مع نبرة الفيلم.
لكن مرة أخرى الأشياء الجيدة تعزف عزفاً منفرداً، اشكالية هذه الأضاءة المتقنة والجذابة أنها تحمل دلالة استعراضية لا تقدم مستوى إضافياً للفهم أو الشعور، كل شيء يبدو مشغولاً بإتقان، دون أن يترجم إلى خطاب بصري عميق أو طبقات تأويل، التطور البصري يسير بمحاذاة تطور شخصية الأبطال لتعميق المعنى، فنحن في متاهة الشخصيات ومتاهة الفيلم ومتاهة المشاهد من الصعب تفسير توظيف الجماليات التي لم يبخل صناع العمل في تدفقها في جميع المشاهد.
محاكاة قناة "ميلودي"
في أحد أبرز مشاهد الفيلم، يظهر مشهد اختبار أداء داخل شركة إنتاج، يستحضر بشكل واضح إعلان قناة "ميلودي" الشهير في منتصف الألفينات "أيوه يا وديع".
هذا الاستدعاء يبدو طريفاً في لحظته خصوصا للمتلقين الذين يعرفون المرجع، لكن استخدامه لا يتجاوز حدود المحاكاة ولم يضف شيئاً للمشهد، رغم الاستعانة بالممثل المصري "أحمد أمين" لإضفاء نكهة معززة، لكنه أدرج كاقتباس بصري شبه مباشر بلا تصعيد، وبهذا خسر فرصته بأن يكون نقطة قوة رمزية في السرد وانتهى إلى لحظة سخرية عابرة ضمن محاكاة تم توظيفها كتعليق أو إعادة قراءة للزمن التلفزيوني السابق، فبدت مجرد مزحة مرجعية لمن يعرفها.
تأمل ختامي
بالنغمة العامة للفيلم تلتزم بخفّة والحياد، فهو لا يدخل في طبقات مجتمعية أو سردية جادة، و لايشتبك مع جدالات ثقافية أو طبقية،ولا تشتبك مع أي خطاب اجتماعي صريح كما هو الحال في جميع الإنتاجات الكوميدية الأخيرة، هناك ميل لتجنب الجدل أو المواجهة، كوميديا محايدًة على مستوى المضمون، وموجهة للترفيه الخالص، وهذا خيار مشروع.
لذلك يبدو "الزرفة" كفيلم وُلد من روح المزحة، لكنه لم يجد الطريقة المناسبة لحملها حتى النهاية، الكوميديا حاضرة في الشكل ولم مؤسّسة درامياً أو دلالياً، النكتة تسبق البناء، والمشهد يسبق السياق، والمفارقة لا تبحث عن معنى يتجاوز لحظتها.
وربما في هذه الفجوة بالتحديد يتجلى عنوان الفيلم نفسه، حين لا تبنى الفكرة من الداخل، تخرج الكوميديا من مسارها، وتبقى مجرد "زرفة".. سريعة، عابرة، لكنها لا تعرف إلى أين هي ذاهبة أين مستقرها.