مرّت قبل أيام، في الرابع عشر من أغسطس الذكرى الرابعة بعد المائة لواحد من عمالقة المسرح العالمي، الإيطالي جورجو سترهلر، مؤسس مدرسة الاخراج المسرحي الحديث ومسرح Il Piccolo Teatro - المسرح الصغير في ميلانو.
"أنا أصنع المسرحَ من أجل تغيير العالم، حتى لو كنت أعلم خقّ العلم بأنّ المسرح وحده لن يُغيّره أبداً. لكنّي سأساعد على تغييره قليلاً، ولو بمقدار مليمتر واحد.. أُحبُّ المسرح لأنه فعاْ إنساني".
بهذه الكلمات لخّص جورجو سترهلر (1921-1997) فلسفته المسرحية، واضعاً الفن الرابع في صلب الفعل الإنساني، لا باعتباره ترفاً جمالياً، بل ممارسةً حيّة للوعي والتغيير.
ثورة في مفاهيم الإخراج
في عام 1947 أسّس سترهلر مع شريكه باولو جراسّي "المسرح الصغير في ميلانو" Piccolo Teatro di Milano، الذي سيُصبح لاحقاً أحد أهم المختبرات المسرحية في أوروبا.
لم يكن الهدف إنشاء مؤسسة رسمية بقدر ما كان تأسيس فضاء ديمقراطي للفن، "مسرحٌ للجميع" كما أحب أن يصفه، في هذا المكان وُلدت لغة إخراجية جديدة، جمعت بين صرامة البحث الجمالي والالتزام الاجتماعي، فصارت عروض سترهلر محجّاً لعشاق المسرح في العالم، ومصدر إلهام للمخرجين في أوروبا وأميركا اللاتينية وحتى آسيا.
التنوّع والحداثة
من سمات سترهلر الكبرى أنّه لم يحصر نفسه في لون واحد أو تيار محدّد، بل جال عبر مساحات واسعة من الريبرتوار المسرحي: من كلاسيكيات شكسبير، إلى كوميديا كارلو جولدوني الشعبية، إلى الدراما العاطفية لتشيكوف، وصولاً إلى المسرح الملحمي لبرتولد بريخت، والمسرح الإيطالي الحديث مع إدواردو دي فيليبّو، كان ينطلق من النصوص الكبرى ليعيد ابتكارها بصيغة معاصرة، تمنحها حياة جديدة وتفتحها على أجيال مختلفة.
حادثة بريخت
من أبرز المحطات الرمزية في مسيرة سترهلر لقاؤه مع بيرتولد بريخت في برلين عام 1956، بمناسبة عرض مسرحيته "دائرة الطباشير القوقازية" التي أخرجها سترهلر مع فرقة "المسرح الصغير".
في تلك المناسبة، دسّ بريخت في يده ورقة صغيرة كتب فيها: "أفوّض جورجو سترهلر بإخراج أعمالي كما يشاء". كان ذلك أشبه باعتراف علني من أحد أعظم كتّاب المسرح في القرن العشرين بقدرةِ سترهلر على الإمساك بروح نصوصه وإعادة بنائها على الخشبة بوفاء وابتكار في آن، هذا التفويض لم يكن تكريماً شخصياً فحسب، بل شهادة دولية على أنّ إخراج سترهلر بلغ مرتبة اللغة الكونية.
حوار بين التقاليد
لم يتوقف سترهلر عند المسرح الأوروبي الكلاسيكي أو الملحمي، بل التفت أيضاً إلى الإرث الإيطالي الحديث، وفي مقدّمهِ إدواردو دي فيليبّو. وكان عرضه لمسرحية La grande Magia (السحر الكبير) من آخر أعماله الإخراجية، بمثابة حوار حيّ بين مدرستين: دي فيليبّو، الذي حمل إلى المسرح صوت الجنوب الإيطالي، وسترهلر، الذي حاول أن يمنح ذلك الصوت أفقاً كونياً يلامس الإنسان في كل مكان.
كانت العلاقة التي ربطت سترهار بإدواردو دي فيليبّو قويّة للغاية، لذا شعر بفقد كبير، وكتب في اليوم التالي لجريدة "الكورّييري دلّا سيرا" الصادرة في ميلانو إفتتاحيةً بعنوان: "مات إدواردو، فالمسرح العالمي فقير…"، وأضاف "لقد انطفأ أحد آخر الكبار، رجل لم يكن مجرد كاتب أو ممثل، بل شاعرٌ على خشبة المسرح. مع غيابه يخسر المسرح الإيطالي قلبه الحيّ وروحه الأعمق".
إخراج يتجاوز الحدود الوطنية
لم يكن سترهلر "مخرجاً إيطالياً" بالمعنى الضيّق، بل واحداً من أبرز الروّاد الذين أسّسوا لفن الإخراج المسرحي الحديث في القرن العشرين. لقد تعامل مع النصّ بوصفه مادة حيّة، لا يُعاد إنتاجها فحسب، بل تُفكَّكُ وتُبنى من جديد عبر الصورة المسرحية، الحركة، الموسيقى، والإضاءة.
لم يكن مجرّد ناقل لنصوص شكسبير أو بريخت أو تشيخوف، بل خالقاً لكونٍ مسرحي يعبّر عن زمنه وعن القضايا الإنسانية الكبرى: الحرية، العدالة، الكرامة، والتحوّل الاجتماعي.
امتدّ تأثير سترهلر إلى العالم كلّه: من باريس حيث تعاون مع الكوميدي فرانسيز، إلى فيينا وبرلين، ومن مهرجانات أميركا اللاتينية إلى مسارح طوكيو وموسكو.
صار اسمه مرادفاً للمسرح الذي يُخاطب الإنسان أينما كان. لقد أسّس معاصروه وتلامذته على أثره مدارس إخراجية جديدة، لكن بصمته بقيت فريدةً، لأنها جمعت بين الصرامة الفكرية والحساسية الجمالية والالتزام الإنساني.
مهندس عصرٍ جديد
جورجو سترهلر لم يكن فقط مخرجاً كبيراً، بل مهندسٌ لعصر جديد في المسرح، حيث صار الإخراج على يده لغةً قائمة بذاتها.
من "المسرح الصغير" في ميلانو انطلقت شرارة غيّرت وجه المسرح الأوروبي والعالمي، ومن ورقة صغيرة دسّها بريخت في يده وُلِدَ اعترافٌ تاريخي بدوره.
سترهلر هو ذلك المخرج الذي أراد أن يغيّر العالم عبر الخشبة، ولو بمقدار "مليمتر"، لكنه في الحقيقة غيّر أفق المسرح كله.
رحيلٌ في يوم ميلاد المسيح
في نهاية مسيرته الحافلة، نال جورجو سترهلر تكريماً رفيعاً من الدولة الإيطالية، حين عيّنه رئيس الجمهورية أوسكار لويجي سكالفارو "سيناتوراً مدى الحياة" في مجلس الشيوخ الإيطالي عام 1984، تقديراً لدوره الريادي في إرساء أسس الإخراج المسرحي الحديث وفي جعل إيطاليا منارة مسرحية للعالم.
ظلّ يحمل هذا اللقب إلى حين وفاته في 25 ديسمبر 1997 بميلانو، حيث طوى برحيله صفحة من أعظم صفحات المسرح الأوروبي، هو الاشتراكي العلماني رحل في بومٍ بهيج: "يوم ميلاد يسوع المسيح"، لكأنَ ذلك الرحيل ليس موتاً، بل موعدٌ للّقاء على خشبة مسرحٍ آخر.