"عايشين معانا".. والجن أيضاً لديهم عائلة

صورة نشرها الممثل خالد صقر عبر حسابه على منصة "إكس" تجمعه بفريق عمل مسلسل "عايشين معانا". 4 سبتمبر 2025 - @Kld_sqr
صورة نشرها الممثل خالد صقر عبر حسابه على منصة "إكس" تجمعه بفريق عمل مسلسل "عايشين معانا". 4 سبتمبر 2025 - @Kld_sqr
القاهرة-عصام زكريا*

لطالما كانت العلاقة بين الإنس والجن ملهمة لخيال القصاصين ومحوراً للعديد من حكايات الأدب الشعبي العربي، امتدت آثارها إلى العالم وإلى الأدب الحديث، ويكفي أن نذكر كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي تدور معظم حكاياته حول العلاقة المثيرة بين الجن بأنواعهم وبني الإنسان.

وهذه العلاقة هي موضوع المسلسل السعودي الجديد "عايشين معانا" الذي يعرض على منصة "شاهد"، من تأليف علاء حمزة، صاحب العديد من الأعمال الكوميدية الناجحة مثل "إخواني إخواتي"، "مرزوقة"، "ثانوية النسيم"، و"حمود وولده".

يدور العمل الذي أخرجه مشاري المزيد، في أول أعماله الدرامية، عن عائلة كاملة من الجن تنتقل للعيش بين البشر داخل أحد الأحياء السكنية الحديثة بمدينة الرياض، متلبسين أجساداً بشرية، ومختلطين بالسكان، في مهمة صعبة كلفوا بها من قبل رؤساءهم لاستعادة خاتم سحري مفقود يبحث الجن عنه منذ 2000 عام. هذا الخاتم، حسب مصادر معلوماتهم، في حوزة إنسان صالح بار، ولا يمكن الحصول عليه إلا بموافقة صاحبه ورضاه.

الفكرة تفتح باب الخيال أمام عشرات الاحتمالات والحكايات والمعاني التي يمكن استخلاصها، وعبر حلقاته العشرة يتطرق المسلسل بدرجات مختلفة من بعض هذه الأفكار.

أولها بالطبع علاقة الحب التي تنشأ بين الكائنين المتناقضين: الجن والإنس، وهي "الثيمة" الأكثر شيوعاً في التراث والخيال الشعبي العربي ليس فقط في القصص ( ألف ليلة وليلة نموذجاً)، ولكن أيضاً في المعتقدات الشعبية، التي تؤمن بإمكانية المعاشرة وحتى الزواج بين الإنس والجن، وكثيراً ما يتم تفسير أعراض أمراض نفسية مثل الفصام والذهان بوجود جنية أو جني يتزوج أو يتلبس البشر.

لكن قصة الجنية التي تطارد الرجل الإنسي هي مجرد خط درامي واحد في المسلسل، من خلال الإبنة الكبرى لعائلة الجان التي تقع في حب شاب من جيران المجمع السكنيي، وتبدأ ملاحقته بطريقة سافرة تثير استهجان وعجب أهل الحي.

ولكن الفكرة تتردد عبر تنويعات وخيوط أخرى: الأم تعجبها حياة البشر وخاصة نساء الحي وتبدأ في التأثر بهن وتقليدهن، الابن يصادق أحد الشباب، يتبين لاحقاً أنه مالك الخاتم، وبدلاً من أن يساعد والده في الحصول على الخاتم، يسعى لتخريب خططه لحماية صديقه البشري.

جن إنساني

من المفارقات أن عائلة الجن التي تتكون من الأب ثامر, الذي يجسد دوره الممثل خالد صقر، اتخذت لنفسها اسم " أبو أنس"، وهي أقرب في طباعها للإنسيين، بداية من الابن الأكبر أنس، ويجسد دوره مصعب المالكي، الذي يهوى لعب كرة القدم، و"أم أنس"التي تؤدي دورها عائشة كاي، التي سرعان ما تندمج مع نساء الحي، والابنة الوسطى ربى، وتجسد شخصيتها رغد العنزي، التي تقع في حب عبودي، ويؤدي دوره الممثل أحمد الكعبي، بالإضافة إلى الابن والإبنة الأصغرين، اللذين لا يكادان يشعران بالفارق بين كونهما من الجن، وكونهما أطفال لا يفكران سوى في اللعب واللهو، حتى لو تسبب الأمر في كشف سر العائلة.

هنا، وعلى عكس معظم المعالجات السينمائية والدرامية المعتادة مثل فيلم "الإنس والجن" ومسلسل "المداح" بأجزاءه، يصور الجن بشكل يخلو من الرعب والشر ويكادون لا يختلفون عن البشر كثيراً، بل يكادون في بعض الأحيان يشبهون بعض العائلات الأجنبية المهاجرة التي تسكن المجمع السكني، والذين لا يختلفون عن أهل البلد سوى في العادات والتقاليد.

ومن الطريف أن المسلسل يعقد بعض المقارنات بين طباع الجن (وفقاً لعائلة أبو أنس) وطباع البشر ويبين أن هناك مزايا وعيوب في الإثنين، إذ ينهر أبو أنس أولاده وزوجته أحياناً لتشبههم بالبشر في ميلهم للمظاهر والكذب، وفي المقابل يبين المسلسل أن البشر يتميزون فحسب بقدرتهم على الاختيار وامتلاكهم مشاعر الحب والتعاطف مع الآخرين.

ولا يملك المشاهد أحياناً سوى التعاطف مع عائلة الجن الطيبة والصادقة، ويتمنى ألا يصيبهم مكروه، فهم أيضاً مجبرون تم إرسالهم لمهمة لا يرغبون فيها ولا يفهمون شروط وقواعد العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه، حتى أبو أنس الذي يبدو أكثرهم قسوة وحرصاً على أداء المهمة (خاصة بعد أن يتلقى تهديداً بالقضاء على عائلته من قبل القائد الذي أرسلهم) فإن المشاهد يتفهم أيضاً أنه مجرد أب يحاول حماية عائلته بأي وسيلة.

هذه هي الفكرة الأكثر لمعاناً وإنسانية في العمل، وهي أنه يجعلنا نتعاطف مع عائلة الجن ونتفهم ظروفهم ودوافعهم، والتي يشتغل عليها السيناريو بطريقة ذكية وناعمة، دون الوقوع في تجميل أو تمجيد حياة الجان.

الصعلوك الزاهد

فكرة لامعة أخرى يعرضها المسلسل وهي أن مالك الخاتم، الذي يفترض أنه من أكثر الناس صلاحاً، هو شاب صعلوك أعزب، سكير، وغير ملتزم بالفروض، ولكن داخله إنسان زاهد ونبيل لا يمكن أن يؤذي أحداً، وهو يفعل الخير، من خلال زياراته الدورية، السرية، لبيت الأيتام الذي نشأ فيه، لكي يوزع الهدايا والحب على الأطفال.

وبينما يتجنبه معظم سكان المجمع ويستاءون من وجوده بينهم، بل يحاولون طرده في إحدى المرات، ظناً منهم أنه لا يرقى لمستوى صلاحهم، يجهلون أنه على العكس أفضل من فيهم.

وأرقى ما في هذا الشاب الذي يحمل الاسم الدال سليمان، ويؤدي دوره فهد بن سالم، هو استغناءه عن مطامع الحياة، المال والامتلاك والسلطة وحتى حب كل الناس، التي يمكن أن يمنحه إياها الخاتم السحري.

هذه المقارنة بين مفهومين مختلفين عن التدين الحقيقي، وهل هو التمسك بالشكليات أم نقاء القلب والسلوك، هي إحدى الأفكار التي يناقشها المسلسل بذكاء ونعومة أيضاً.

أفكار مفككة

يغلف "عايشين معانا" هذه الأفكار وغيرها بقالب كوميدي يعتمد على طرافة ولا معقولية المواقف حيناً، وعلى الصخب والمبالغات حيناً آخر، مع صبغة من التشويق الناتج بالطبع عن وجود "عفاريت" تثير القشعريرة في نفوس الشخصيات والمشاهدين.

ولكن هذه الأفكار تتوزع عبر حلقات ومشاهد المسلسل بشكل يشوبه التفكك والتضارب أحياناً، إذ يسود منطق الفقرات الكوميدية أكثر من منطق الدراما المتتابعة المنطقية، ويحكم مبدأ البحث عن الضحكة أكثر من مبدأ القصة المحكمة ذات الخطوط المتماسكة.

من ذلك، مثلاً، ظهور جدة عائلة الجن في بعض الحلقات، متجسدة في هيئة امرأة مثيرة تغوي رجال الحي وتهدد عائلاته وتؤدي دورها سماح زيدان، ورغم خفة دم الفكرة، إلا أنها تبعد بالعمل عن أفكاره الرئيسية التي طرحت بعضها، كما لا تفيد ولا تضيف شيئاً للحبكة والخطوط الرئيسية، خاصة بعد أن ترحل الأم، كما جاءت، دون أن يتغير الكثير في المواقف، إلا إذا اعتبرنا خشية النساء على رجالهن ومحاولة الحفاظ عليهم، أو عودة أم أنس إلى رشدها بعدم مضايقة أبو أنس، إنجازات درامية ذات معنى.

يبدأ المسلسل بداية قوية تستمر لمدة 4 حلقات تقريباً، ثم يتوه بين الخطوط الزائدة أو الممطوطة حتى الحلقة الثامنة، ليختم بحلقتين قويتين مشوقتين، من المؤسف ألا يكون العمل كله على مستواهما.

مصادر وتشابهات

يحمل المسلسل، أفكاراً عدة، من ناحية يذكر بالقصص الخيالية عن "جنود" العالم غير المرئي الذين يحاولون السيطرة على العالم من خلال الاستحواذ على "خاتم" القوة المطلقة (رواية وسلسلة أفلام The Lord of The Rings نموذجاً).

ومن ناحية يوحي بفكرة قبول الآخر، هؤلاء الذين يعيشون بيننا، نخشاهم ويخشوننا، والتصالح الممكن بينهما في النهاية بعودة كل طرف إلى عالمه (فيلم The Others، إخراج أليخاندرو أمينابار وبطولة نيكول كيدمان).

ومن ناحية طبيعته الكوميدية، فهو يحمل أيضا آثاراً من سلسلة أفلام ومسلسلات Adamms Family The التي يصنعها تيم بيرتون، وأيضاً فيلم The Joneses تأليف وإخراج ديريك بورت، والذي لعب بطولته ديفيد دوشوفني و ديمي مور وأمبر هيرد، وكان يدور حول عائلة مزيفة من المعلنين ينتقلون للعيش في مدينة صغيرة لترويج سلع الشركات التي يعملون لديها، خاصة شخصية الابنة التي تدخل في علاقة مع أحد سكان المدينة، والعلاقة الشائكة بين الأب والأم غير الحقيقين.

التمثيل الأفضل

يتأثر "عايشين معانا" بهذه الأعمال وغيرها، وهو أمر طبيعي ومشروع بالطبع، بشرط أن يكون للعمل عالمه وأسلوبه ومعناه الخاص.

وكما ذكرت يحمل المسلسل معانٍ إنسانية عن التعايش وقبول الآخر والمعنى الحقيقي للأخلاق والتدين، غير أن بعض الخطوط والمشاهد تعاني من هزال على مستوى المضمون الذي تحتويه أو على مستوى الإيقاع والتشويق المطلوبين.

ولكن العنصر الأكثر تميزاً في المسلسل، والذي يعوض عن أي شيء هو التمثيل، وهو أمر يحسب للمخرج الذي أدار فريق العمل بمهارة وفهم لطبيعة "الكوميديا التشويقية" Suspense comedy.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يجيد خالد صقر في شخصية "أبو أنس" التعبير عن مشاعر الأب الجزع على عائلته، والجني المخيف القادر على الأذى في الوقت نفسه، بينما يبرع فهد بن سالم في أداء شخصية الشاب اللاهي العابث والذي يحمل قلب زاهد داخله، وسواء كان الكبار مثل فاطمة الشريف ومهند الصالح وعائشة كاي، أو الشباب الصغار مثل أحمد الكعبي ومصعب المالكي ورغد العنزي، فالكل يحافظ على المسافة الآمنة بين الأداءين الكوميدي والطبيعي دون أن يتخطى أي منهما حدود الآخر.

تصنيفات

قصص قد تهمك