ما الذي يدفع صانع سينما بحجم وتاريخ الأميركي الأيقوني دارين أرنوفسكي، أن يقدم على إخراج فيلم ليس من كتابته كما عودنا طوال مشواره، الذي قدم لنا من خلاله تجارب مثل Black Swan و Requiem For a Dream وThe Fountain؟
ما الذي استوقف صاحب The Wrestler وNohe أمام السيناريو الذي كتبه تشارلي هيوستون – اقتباسا من كتابه- عن لاعب البيسبول يعيش في نيويورك التسعينات؟، لكنه وبدون سبب مقنع أو نية واضحة يتورط في صراع عنيف بين مجموعة عصابات كوزموبوليتانية – روس ولاتين وعبرانيين- يديرون عالم سري لمراهانات مليونية مكسوة بالدم ومحشوة بالجثث!
يبدو Caught stealing أو "متلبس بالسرقة" فيلماً يعكس مزاج أرنوفسكي أكثر مما يعكس أسلوبه المعروف؛ سواء على مستوى الفلسفة أو الأفكار، يمكن أن نقول أنه يحمل جيناته لكنه لا يبدو على شاكله تجاربه في عمقها وفرادتها، لا هموم كونية- مثل Nohe و Mother- ولا صوفية ممزقة ما بين الحلم والسماء- مثل The Fountain وBlack Swan- لا أسئلة كبرى ولا علامات استفهام هائلة الوطأة على وجدان المتلقي- مثل Requiem For a Dream أو The Whale أو The Wrestler- هو اقرب إلى تحية إلى النوع السينمائئ التسعيناتي الشهير؛ الإثارة الكوميدية الدموية القائمة على المصادفة وسوء الحظ! ربما كان يحلم وهو لا يزال مخرج شاب قبل ثلاثين سنة أن ينجز عملاً شبيها به!
المطاردون بماضيهم
ثمة عناصر مزاجية لا يفوتها أرنوفسكي في كل أفلامه، عناصرمحددة يسهل رصدها وتتعدد مصادر تأويلها سواء من الناحية الفلسفية أو الدينية أو النفسية، يتعمد أرنوفسكي في تجاربه أن يشكل متاهة ممتعة من الأفكار، التي تجعل الفيلم يعاد إنتاجه أكثر من مرة في ذاكرة وعقل المتلقي كلما روادته الرغبة في تكرار المشاهدة.
ربما لا ينطبق هذا التأطير العميق على تجربته الجديدة، لكنها دون شك تحمل كتلاً لا بأس بها من مزاجيته الفكرية والبصرية، وهو ما قد يعكس ملمحاً افتراضياً للإجابة على الأسئلة التي راودتنا في البداية.
في الفيلم الجديد، لدينا لاعب البيسبول الشاب المتقاعد "هانك"، المطارد طوال الوقت بماضيه (حادث السيارة الذي تسبب فيه بشكل قدري فأفقده زميل الثانوية واقعده عن الاحتراف المستحق لموهبته القوية)، هكذا تبدو عادة شخصيات أرنوفسكي، مطاردة بماضيها، منشغلة الحواس والذاكرة بتراكماته أو آثاره أو كوابيسه أو أحلامه المجهضة.
يتورط "هانك" وسط مجموعة عصابات مختلفة العرقيات- ثمة 3 لغات على الأقل يدور بها حوار الفيلم منها الإسبانية واليديشية- بسبب جاره الإنجليزي الهيبز، ويجد نفسه مطالباً بإيصال مجموعة العصابات المختلة إلى مبلغ ضخم من المال لا يعرف له طريق.
يحضر الماضي الحي لمخيلة "هانك" ويزلزل ذاكرته! سواء عقب ممارسته للحب مع صديقته السمراء أو خلال إغماءاته المتعددة كلما تعرض للضرب المُفتت للعظام على يد رجال العصابات (أحدهم يتعامل مع الضرب كأنه حيوان بري، يهاجم على أربع وينطح برأسه الصلعاء).
أبطال أرنفسكي دوماً مطاردون بماضيهم سواء القريب أو البعيد، ذكرياتهم تتحول مع الوقت إلى هلاوس حية أو حاضرة تتقاطع كفواصل مع لحظات وعيهم وأحلامهم المكبوتة، يحكي لنا أرنوفسكي الحادثة التي شكلت حياة "هانك" في الماضي عبر استعادءات متقطعة، ثم يعيد جمعها في مشهد "فلاش باك" واحد طويل، يفتت ويجمع بما يحشد قدر من المشاعر والانفعالات، ويجعل الذكرى ندبة لا تزول كالتي في ركبة "هانك" من أثر الحادث.
يشبه "هانك" هنا أبطال The Fountain و Black Swan The Whale و The Wrestler، عامل عبقري يحضره طيف زوجته الذي فشل في علاجها من السرطان، أو لاعبة بالية موهوبة لكنها هشة نفسياً بسبب تشوهات عائلية، أو مصارع متقاعد في محاولة لاستعادة مجد قديم، أو حتى بروفيسور يعاني من البدانة المفرطة فقد عشيقه انتحاراً، كل أبطاله موهوبون بشكل أو بأخر.
"هانك" موهوب في يده حاملة مضرب البيسبول، وكلهم يتعرضون لانتكاسة جسدية او نفسية في لحظة فارقة من وجودهم، تؤدي بهم إما إلى الصوفية أو الجريمة، الفارق أن مسار "هانك" يسير وفق النوع لا الفلسفة- كعادة أفلام العصابات التسعينية حيث يقضي على الجميع بذكاء ويهرب إلى خارج أميركا بأموال العصابات- وهي واحدة من العناصر التي تشكل نمطية غريبة على أرنوفسكي! هو من عودنا على شطحات أقرب للرؤى الكابوسية أو الصعود السماوي، وليس على الاستجابة لما هو معروف ومحدد سلفاً بحكم تكرارية القصة.
صورة الزمن
مع كون أبطاله عادة مطادون بالماضي فإن الزمن غالباً ما يتخذ أشكالاً عديدة في سينما أرنوفسكي، يمكن أن نلمح بعضها يحضر على استحياء هنا في تجربته الجديدة، يفتت أرنوفسكي الزمن عادة عبر استعادة الماضي بـ"الفلاش باك" ثم داخل هذا الماضي يتقلص زمن اللقطات بالحركة البطيئة، ليعطي لنا مساحة لتأمل الفعل أو الحدث أو النتيجة!
لا يكتفي بالعودة ولكن بتفكيك هذه العودة بصرياً، مثلما نرى لقطة دخول سيارة "هانك" أثناء الحادث القديم في شجرة صلبة، وتحطم مقدمتها بشكل بطئ وعنيف ومدمر، يوحي بحجم التأثير المهول على حياته في تلك اللحظة وامتداد هذا التأثير لما بعد.
هذا على مستوى الماضي، أما على مستوى حاضر الشخصيات، فيلجأ أرنوفكسي إلى حركة كاميرا تلفت النظر إلى ما هو أبعد من مجرد الحدث أو الفعل، تحاول الإمساك بالزمن في حركته نفسها، خلال الفصل الأول مثلاً وكمحاولة لدفعنا لأن نرى الصورة كاملة، مكانياً وزمنياً وشعورياً- بين كل من هانك وحبيبتة السمراء يلجأ أرنوفسكي إلى حركة الابتعاد بالكاميرا عن الشخصيات إلى الخلف، يكرر هذه الحركة طوال زمن الفصل الأول تقريباً، وهو ما يدفع المتلقي مع التكرار إلى الشعور بأنه ثمة ما يجب أن يرصده كأثر مباشر لهذا النمط البصري، الحركة للخلف تضيف إلى من مكونات الكادر لأنها تمنحنا مساحة أوسع للمكان، فنرى كامل الشخصيات وما يحيط بها سواء شارع أو شقة أو سيارة، ولما كنا في التسعينيات ولما كانت العلاقة بين الحبيبة السمراء و"هانك" في هذا الفصل مرتبكة ومشوشة! ولما كانت المصائب توشك أن تقع على رأس "هانك" وضلوعه المحطمة من جراء الضرب المتوالي بسبب التورط غير المقصود! كل هذا يكثف حساسية المشاهد للزمن بشكل كبير سواء على مستوى الحقبة أو الأحداث.
الزمن لدى أرنوفكسي يختلف كثيراً عن الزمن لدى مخرج مثل كريستوفر نولان، نولان مولع بالحركة الكلية للزمن، تداخل الماضي مع الحاضر مع المستقبل، فكه وإعادة ترترتيبه بما يحقق سردياته المختلفة، أرنوفسكي يتعامل مع الزمن في الموجودات، في الأشياء، في المكان؛ في فيلمه الأوسكاري The Whale لا نغادر الشقة التي يعيش فيها البروفيسور مفرط البدانة، لكننا في نفس الوقت يمكن أن نتعرف على كامل تاريخه الحياتي عبر مكونات المكان والديكور والتفاصيل، وفي The Fountain يتشكل الزمن كفقاعة شفافة تصعد بالبطل حاملة معها شجرة الحياة في ترقي صوفي متين الدلالات.
الزمن إذن لدى أرنوفسكي على عكس نولان، لا يمكن قياسه بالساعات أو الأيام، هو أكثر حساسية وتفصيلاً وفلسفية، زمن وجودي غير قياسي بالشكل التقليدي.
أرنوفكسي ولكن..
لماذا يمكن توقع كل الأحداث بسهولة في هذا الفيلم؟
سلسلة من سوء الحظ والمشكلات القسرية والجرائم العنيفة تشكل متن التجربة، لكنها في نفس الوقت تبدو سهلة التوقع ومعروفة سلفاً لأي هاوي للنوع أو متمرس تسعيناتي، يسهل مثلاً توقع أن الضابطة السمراء التي تحقق في قضية الاعتداء على "هانك" من قبل الثنائي الروسي هي نفسها فرد من العصابة متورط بشكل عنيف، فالكثير من ضباط افلام التسعينيات فسدة ومنشقين عن عصا القانون، وغالبيتهم أكثر عنفاً من المجرمين أنفسهم.
الغريب أن الضابطة تتحدث عن عنف الثنائي العبراني في هيئة الحسيديم، وعن كونهم يقلعون العيون ويسحقون الأطراف، لكننا نراهم في مشاهد واحد فقط يقتحمون عرس لاتيني مطلقين النار، بينما العنف التسعيناتي الأصلي نراه يمارس من قبل الثنائي الروسي الأًصلع – الفيلم كله قائم على عنصر الثنائيات في الشخصيات وهو أحد عناصر النوع الشهيرة في التسعينات أيضاً، فالكثير من أفلام التسعينات اعتمدت على الثنائيات سواء الضباط اوالأشرار، مثل Lethal Weapon و BAD BOYS و Tango & Cash، صحيح أن هنا لدينا بطل منفرد لكن أشرار العمل من الثنائيات العرقية الخالصة – التي بلا شك تحمل إشارات إلى المكون الشعبي للمجتمع النيويوركي في التسعينات- الضابطة السمراء وصاحب الكباريه البورتوركي وثنائي المافيا الروسي والثنائي العبراني.
وحتى "هانك" نفسه في الكثير من فصول الفيلم يشكل ثنائية واضحة، إما مع حبيبته السمراء قبل أن يتم تصفيتها، ثم جاره الإنجليزي عقب عودته من لندن – بعد أن ظن أفراد العصابة أنه هرب بالملايين الخاصة بالمراهنات الخاصة بهم.
كل هذه العناصر النمطية التسعينية، تجعل من الصعب الإجابة على سؤال وجود توقيع مخرج بحجم أرنوفسكي على هذا الفيلم، حتى مع وجود بعض العناصر التي تشبه سينماه الاستثنائية، وكأننا أمام فيلم غير استثنائي لمخرج استثنائي، فيلم يصعب تصنيفه ضمن تراتبية تصاعدية في تجاربه، كأنه فيلم بدايات لمخرج يبحث عن صوته الخاص، لكن غلبة النوع، وبعدت التسلية التقليدية بينه وبين أي نبرة مميزة في صياغة سردية متعددة التأويلات أو باذخة الجمال.
*ناقد فني