كشف مؤسس مهرجان أفلام السعودية، الشاعر أحمد الملا، في حوار خاص مع "الشرق"، عن التحول الجذري الذي شهده المهرجان منذ انطلاقته الأولى كهواية ثقافية إلى أن أصبح اليوم منظومة احترافية متكاملة تعمل وفق معايير الإدارة الثقافية الحديثة.
وأكد أن المهرجان يمثل اليوم نموذجاً رائداً في الاقتصاد الثقافي، ورافداً أساسياً لتنمية الصناعة السينمائية في المملكة، عبر دعم يتجاوز 80% لصناع الأفلام المحليين، وانفتاح واسع على التعاون الدولي.
ويُعد أحمد الملا أحد أبرز رواد الحركة الثقافية والسينمائية في السعودية، وهو شاعر وصحفي بدأ مسيرته الأدبية في التسعينات، وتميّز بكتابة قصيدة النثر، وله عدة دواوين شعرية منها "ظل يتقصف" و"خفيف ومائل كنسيان"، كما تولّى إدارة فرع جمعية الثقافة والفنون بالدمام، وأسهم في تأسيس جمعية السينما، الجهة المشرفة حالياً على المهرجان.
من الهواية إلى الاحتراف
قال الملا: "منذ البدء، كان لدينا اهتمام بالجانب الاقتصادي منذ 2008 وحتى 2019. كانت تلك تجارب تأسيسية، لكننا اليوم نعمل باحتراف تحت مظلة جمعية السينما (غير ربحية) بمقر في الخبر ونشاط محلي ودولي".
وأضاف أن الجمعية وضعت خطة اقتصادية تضمن استدامة المهرجان تشمل سياسات مالية واضحة وميزانيات مقدّرة مسبقاً وآليات دعم وتمويل مدروسة لكل دورة ضمن رؤية تمتد لخمس سنوات، مؤكداً أن "هذا التخطيط سيسهم في تحقيق النمو والاستمرارية إذا نُفذ بعناية".
وتقدّر الإيرادات المتوقعة لقطاع السينما في السعودية بـ 1.5 مليار دولار بحلول عام 2029، ما يجعل المملكة تمثل نحو ثلث سوق السينما في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي هذا السياق، أوضح الملا أن مهرجان أفلام السعودية يمتلك خططاً اقتصادية داخلية لا تقوم على الإنتاج المباشر، ولكن على تحفيز وتطوير المشاريع السينمائية.
وقال: "في الدورة الماضية دعمنا 26 مشروع فيلم من مختلف مناطق المملكة، عبر شراكات مع شركات وممولين، وغالباً لا يغطي الدعم جهة واحدة، بل يكون تكاملياً بين عدة جهات".
وأشار إلى أن مهرجان البحر الأحمر السينمائي يكمل هذا الدور عبر صندوق دعم إقليمي للأفلام في السعودية والعالم العربي وآسيا، مما يوسّع نطاق التأثير الثقافي والاقتصادي.
من الفكرة إلى الفيلم
ويلعب المهرجان، بحسب الملا، دوراً محورياً في تحويل الأفكار إلى مشاريع أفلام قابلة للتنفيذ والتمويل، من خلال تدريب صناع الأفلام على الإدارة الإنتاجية، وتقدير الميزانيات، واختيار الكوادر والمواقع.
وقال: "كثير من صناع الأفلام يمتلكون أفكاراً أو نصوصاً أولية، لكنها لا ترتقي إلى مشروع جاهز للتمويل، وهنا يتدخل المهرجان لسد الفجوة وتحويل الفكرة إلى مشروع متكامل".
ويوضح الملا أن المهرجانات لا تقدم دعماً مالياً مباشراً، بل تشكل جسر تواصل بين المبدعين والجهات الداعمة من شركات تمويل، أو مزودي معدات، أو موزعين.
وقال: "لا نأخذ نسبة من الاتفاقات، سياستنا أن يحصل العارض على بوث فقط إن التزم بدعم المشاريع، نبرم اتفاقات وضمانات بنكية، ونتابع التنفيذ بعد المهرجان، فجوهر المهرجانات هو تطوير الصناعة ودعم صناعها في بيئة تكفل حقوق الجميع".
نموذج الاستدامة
وعن نموذج العمل، أوضح الملا أن الجانب الاقتصادي في العمل الثقافي يعتمد على ما يسمى "المحاسبة الثقافية"، التي تختلف جذرياً عن المحاسبة التجارية، موضحاً أن المنتج الثقافي لا يُعامل كسلعة استهلاكية تنتهي صلاحيتها، بل كقيمة معرفية يمكن إعادة إحيائها مراراً كما في حالة الأفلام والكتب.
وقال: "غياب الإدارات المالية المتخصصة في الثقافة يؤدي لإدارة المشاريع بمنطق تجاري يهدد استدامتها. لذلك يجب أن تبنى الميزانيات على تنوع مصادر التمويل وتطوير المحتوى، لأن القيمة الثقافية لا ترتبط بحجم الإنفاق، بل بجودة المنتج".
فرص وظيفية وتشريعات مهنية
ورأى الملا أن البيئة السينمائية السعودية ما زالت في طور النضج، لكنها تمتلك مقومات تتيح خلق فرص وظيفية حقيقية ضمن القطاع الثقافي، مشدداً على ضرورة وجود بنية تشريعية ومهنية واضحة لتصنيف المهن الثقافية وضمان حقوق العاملين.
وأضاف أن السينما من أكثر المجالات جذباً لرأس المال التجاري بفضل ربحيتها، داعياً إلى تحفيز الاستثمار الخاص لضمان استدامة النمو وفرص التوظيف إلى جانب الدعم الحكومي.
وأكد الملا أن مهرجان أفلام السعودية يعمل على ترويج صورة المملكة عالمياً، عبر ترشيح أفلام سعودية لمهرجانات دولية مرموقة مثل فينيسيا وطوكيو بالتعاون مع وزارة الثقافة، مشيراً إلى فوز فيلم "هجرة" بجائزة أفضل فيلم آسيوي كمثال على هذا الحضور المتنامي.
كما نظم المهرجان برنامج "أضواء على السينما" الذي يسلط الضوء على تجارب دول مختلفة، ويعرض أفلاماً سعودية قصيرة في الخارج، بما يسهم في تعزيز الحوار الثقافي وجذب الاستثمارات وتغيير الصور النمطية عن المملكة.
تحديات التوزيع التجاري
وحول غياب الأفلام السعودية عن شاشات العرض العالمية، قال الملا إن التحدي الأكبر اليوم هو التوزيع، موضحاً أن نجاح الأفلام مثل "هوبال" و"هجرة" في الوصول إلى أسواق ضخمة كالصين يحتاج إلى شركات توزيع محترفة.
وأضاف: "الكثير من المنتجين يركزون التمويل على الإنتاج فقط، بينما التسويق والترويج يتطلب ميزانيات إضافية رغم أن عوائده كبيرة".
وحول إمكانية توسع المهرجان إلى مستوى إقليمي أو عالمي، قال الملا إن السعودية لا تزال بحاجة إلى مهرجانات متعددة التخصصات، مضيفًا: "نحن في مهرجان أفلام السعودية نخصص 80% من طاقتنا للأفلام وصناعها في المملكة، مع انفتاح واسع على المشاركات الخليجية والبرامج الدولية وثيمات عالمية، نحمل هوية سعودية وأفقاً عالمياً".











