ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته السادسة والأربعين، عرض الفيلم المغربي الإسباني "زنقة مالقة" للمخرجة مريم توزاني.
كان العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانين، حيث فاز بجائزة الجمهور في هذا القسم، وقد تم اختياره كتقديم مغربي لجوائز الأوسكار الثامن والتسعين عن فئة أفضل فيلم روائي دولي.
الفيلم بطولة الممثلة الإسبانية كارمن مورا، التي امتدت مسيرتها الفنية لستة عقود، وشاركت في أفلام مثل Women on the Verge of a Nervous Breakdown و Oh, Carmela و Common Wealth وVolver، وتحمل الرقم القياسي لأكثر ممثلة حصولًا على جوائز جويا (أربع جوائز)، كما فازت بجائزة سيزار عام 2012، وجائزة مهرجان كان السينمائي عام 2006.
ويشارك كارمن مورا البطولة كل من: مارتا إيتورا، أحمد بولان، ماريا ألفونسا روسو.
بعد "أزرق القفطان"
تقدم المخرجة المغربية مريم توزاني أحدث مشاريعها "زنقة مالقة"، وهو أول تجربة إخراجية لها باللغة الإسبانية، بعد أن كانت أفلامها السابقة " آدم" و"أزرق القفطان" من أبرز الأعمال المغربية الدولية المرشحة للأوسكار في 2020 و2023، حيث وصل "أزرق القفطان" إلى القائمة المختصرة.
الفيلم مستوحى من حياة جدة المخرجة، وهي من الجالية الإسبانية الكبيرة في طنجة، التي استقرت في المدينة المغربية الساحلية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي أهدت توزاني الفيلم إلى ذكراها.
فيلم "زنقة مالقة" عمل جميل ومؤثر، يروي قصة حب وفقد، حيث تتداخل الفكاهة والسعادة بسلاسة مع لحظات عاطفية حزينة. وعلى عكس أغلب القصص السينمائية التي تركز على أبطال أصغر سناً، يضع الفيلم امرأة مسنة في قلب الحكاية.
من الجميل رؤية البطلة، وهي تستعيد ثقتها بنفسها، ثم تعثر على ذاتها—أو نسخة جديدة من ذاتها—في مرحلة متأخرة من حياتها، وعندما انهار كل شيء، رفضت الاستسلام، وواصلت النضال من أجل ما تحبه.
الفيلم يحترم رغباتها وتطلعاتها لحياة تقوم على خياراتها الخاصة، بغض النظر عن عمرها أو وضعها الاقتصادي أو الوظيفي.
اكتفاء ذاتي مبهج
ماريا أنجيليس، امرأة إسبانية تبلغ 79 عاماً، بنت حياة هادئة في شقة بمدينة طنجة، ممتلكاتها وذكرياتها تمنحانها إحساساً قوياً بالذات، حتى تُصر ابنتها المثقلة بالديون على بيع المنزل المسجل باسمها، خلال ليلة واحدة، تتعرض استقلاليتها للتهديد، وتتشتت مقتنياتها، ويضيق خيارها بين العودة لإسبانيا أو دخول دار رعاية.
لكن ماريا ترفض الرحيل، وتتمسك باستقلاليتها وكرامتها، وتعيد اكتشاف قدراتها العاطفية ورغبتها في الحياة، بل وتجد مساحة لحب جديد لم تكن تتوقعه.
يتمتع الفيلم بألفة ورقة، تجعل حتى القصص المتوقعة نابضة بالإلهام. وفي مشاهد مؤثرة، تزور ماريا المقبرة حيث دُفن زوجها وأصدقاؤها، وتعتني بالقبور بشغف، بل تجمع قطع شاهد قبر مكسور في إحدى اللحظات.
تعيش ماريا اكتفاءً ذاتيًا مبهجًا: تُحيي الباعة بأسمائهم، تشتري حاجياتها من شارع "زنقة مالقة"، تسقي الزهور من شرفتها، تراقب المارة، تجلس على كرسيها الهزاز بطمأنينة، وتستمع إلى موسيقى البوليرو من جهاز تشغيل الأسطوانات المحبّب إلى قلبها.
تجول ماريا في الشقة بغضب، رافضة التحدث مع ابنتها كلارا التي تفاوض سمسار العقارات، وتستدعي تاجر التحف أسلم (أحمد بولان) لشراء كل شيء، يخفض أسلم السعر لدرجة تدفع ماريا لوصفه بـ"الوضيع"، في مشهد طريف مع صديقتها الراهبة جوزيفا، التي لا يسمح لها نذر الصمت إلا بردة فعل صامتة.
تنجح مورا في تجسيد امرأة فقدت مكانها في العالم، وتبحث عن استراتيجية لاستعادة حياتها وذكرياتها بطرق مبتكرة، مولدة تعاطفاً كبيراً لدى الجمهور.
لمسة من الحزن
لم يخطر ببال الابنة أن والدتها لن ترحب بالانتقال للعيش مع أحفادها في مدريد. لكن ماريا تصر: “وُلدتُ في طنجة وسأموت هنا”. ارتباطها بالمدينة جزء أساسي من هويتها.
ويُضيف الفيلم مسحة من الحزن حول كيفية ابتعاد الأهل عن أبنائهم عند النضج. تتذكر ماريا طفولة كلارا السعيدة، وتتساءل كيف أصبحت الآن بهذه القسوة.
تستسلم ماريا مؤقتاً، وتنتقل لدار المسنين. في مشهد طريف، تتشاجر مع مصفف الشعر الذي يريد قص شعرها الفضي الطويل، وما إن غادرت الابنة إلى مدريد، حتى تمكنت ماريا بخدعة من الهرب، وعادت لشقتها الفارغة.
بدأت بشراء أثاثها من أسلم، ولما نفدت نقودها لجأت لفكرة مبتكرة: تنظيم أمسيات لمشاهدة مباريات كرة القدم في شقتها، بمساعدة جارتها المراهقة وشاب من المنطقة، وفرض رسوم دخول مع تقديم طعام ومشروبات.
قصة حب مفاجئة
أجمل أجزاء الفيلم تلك اللحظة التي يرى فيها أسلم ماريا بعين جديدة، مُعجباً بذكائها وروحها، وينمو بينهما حب رقيق، يتعامل معه الفيلم بإنسانية نادرة، خصوصاً في تصوير علاقة عاطفية لامرأة مسنّة، بعيداً عن التهكم أو الابتذال.
المصوّرة فيرجيني سوردي تضفي بريقاً بصرياً على الفيلم، وتُبرز علاقة البطلة بمدينة طنجة. الضوء الخافت داخل الشقة يتناقض مع شمس السوق، وبحر المدينة، ورحلات السيارة المكشوفة. كما تستخدم توزاني موسيقى فريا أردي بذكاء لخلق إحساس عميق بالحنين.
حياة كاملة
تُظهر توزاني، بمشاركة زوجها نبيل عيوش في الكتابة، حساسيتها في تصوير كيف يمكن لمساحة مادية أن تحتفظ بعمر كامل من الذكريات، وربما بالغ النص قليلاً في تأخير أي لحظة تعاطف من شخصية الابنة، لكن هذا لم يمنع انسيابية الدراما.
يمتد الشعور بالألفة والمجتمع طوال الفيلم، حيث يرحب أصحاب المتاجر بماريا كصديقة قديمة، طنجة هنا بوتقة ثقافية تتداخل فيها الإسبانية والعربية، وتنعكس على الشخصيات ولغتهم اليومية.
وتختار توزاني نهاية مفتوحة، بعيداً عن النهايات السعيدة الجاهزة، تاركة مساحة للتأمل في مصير البطلة.
في النهاية، "زنقة مالقة" فيلماً حساساً وممتعاً يتحدث عن الحيوية والكرامة والهوية، وعن امرأة بسيطة تقاتل بكل قوتها للحفاظ على مكان صغير لها في العالم.
* ناقدة فنية











