خاص
فن

"ثريا حبي".. عن الحب والذاكرة والغياب

الملصق الدعائي للفيلم اللبناني "ثريا حبي" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
الملصق الدعائي للفيلم اللبناني "ثريا حبي" - المكتب الإعلامي للشركة المنتجة
القاهرة -رامي عبد الرازق*

قبل أربعة أعوام استطاع المخرج اللبناني الشاب نيقولا خوري أن يحصل على جائزتين هامتين (أفضل وثائقي عربي وجائزة لجنة التحكيم الخاصة) من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثانية والأربعين، وذلك عن فيلم التسجيلي الطويل الأول له "فياسكو" حين شارك في مسابقة آفاق السينما العربية.

وهذا العام يعود نيقولا إلى مهرجان القاهرة في دورته السادسة والأربعين، بفيلمه التسجيلي الثاني "ثريا حبي" مشاركا في المسابقة الدولية التي تضم 14 فيلماً ما بين روائي وتسجيلي، ليفوز أيضاً بجائزة أفضل فيلم وثائقي.

شخصي جداً.. ووجودي أيضاً

ما بين "فياسكو" و"ثريا حبي" ثمة خيط واضح يبرز ملمح أساسي في سينما نيقولا، وهو الهم الشخصي أو الصلة الذاتية بالحكايات التي يرويها عبر أفلامه، في "فياسكو" كان سؤال الهوية الجندرية الخاصة به يؤرقه، ويشغل حيز التفكير الأساسي بالنسبة له مع بلوغه عامه الثلاثين، وفي "ثريا حبي" ثمة الحكاية الشخصية جداً عن قصة الحب والغياب، بين الفنانة ثريا بغداد وزوجها المخرج اللبناني الذي رحل في سن مبكرة مارون بغدادي.

تعكس الحكايات الشخصية، الممزوجة بتوابل الذكريات وعصير الزمن، جانباً مهما ليس فقط من ذات الشخص محور الفيلم، ولكن من أزماته الوجودية أيضاً! وهي الأزمات التي يغلفها نيقولا بلمسة شعرية واضحة في هذا الفيلم تحديداً كجزء من مغامرة النوع هذه المرة؛ حيث يذهب إلى تخوم التسجيلية الشعرية، لكي يتمكن من التقاط العديد من التفاصيل التي من الصعب أن يتم التعبير عنها في اللقاءات المباشرة أو عبر التعليق الصوتي.

يبدأ نيقولا فيلمه بشاشة سوداء – دلالة على غموض البدايات بينه وبين ثريا- نسمع فيها أصوات مكالمة بينهم تبدو فيها ثريا منزعجة إلى حد كبير – وتعلن عن هذا- بعد أن قرأت المخلص الأولي للفيلم قبل أربع سنوات! 

هي ترى أنه لا يمكن أن تصادر حياتها طوال الوقت في كونها أرملة المخرج العبقري الراحل في سن مبكر، توفي بغدادي وهو في عمر ال43 إثر سقوطه من فوق درج بيت أسرته كما قيل وقتها. 

هذه المكالمة الطويلة لا تعكس فقط خشونة الموقف الذي انطلقت منه شرارة الفيلم، بل تعكس أيضاً، ومن البداية كيف أن ثريا في علاقتها الشخصية والحميمية جداً مع حضور وذكرى وذكريات مارون، من أزمة وجودية عنيفة تخص تحققها الذاتي ومحاولتها دائماً أن تفصل ظلها الخاص عن الظل الضخم الذي ألقاه مارون، حين دخل حياتها وهي لا تزال شابة في العشرينيات، وتركها في بداية الثلاثينات – عام 93- تعيش داخل هذا الظل، ولا تكاد تعرف كيف تبرح اتساعه المهمين والقابض على كل تفاصيل وجودها حتى بعد رحيله!

هذه الخلطة ما بين الشخصي والوجودي، هي التركيبة التي يختارها نيقولا كي يصنع فيلمه، رغم كل غوايات الحديث عن الواقع اللبناني والحرب والاغتيالات المباشرة وغير المباشرة، التي تقدمها على طبق من فضة الوثائق والتسجيلات الخاصة بهذا المخرج صاحب القصة المتخمة بالسياسة، في ذروة سنوات الاقتتال الأهلي في لبنان.

بعيداً عن السياسة

لم يذهب نيقولا إلى السياسة ولا إلى محاولة اكتشاف كواليس ما حدث ولم يغره سؤال (هل قتل مارون بغدادي أم مات عبثاً في حادث منزلي سخيف حسب توصيف ثريا أرملته) بل أغوته الحكاية الشخصية والأزمة الوجودية التي عثر على نموذج واضح لها في علاقة ثريا بمارون بعد غيابه الذي صار بتراكم تفاصيل الفيلم مشكوك فيه أو بمعنى أدق مشكوك في طبيعته؛ فماذا يعني الغياب، ونحن نذكر الراحلين، ونعيش معهم من دون انقطاع).

في لقطة شعرية شفافة ومشغولة على مهل، نرى ثريا وهي تتجول في لبنان جالسة في سيارة زوجها القديمة المكشوفة – وقد ظهرت آثار الزمن عليها تمام مثل ثريا- جالسة في المقعد المجاور للسائق، بينما السيارة محمولة على سطح ونش كبير في حين يبدو مقعد السائق شاغراً في الحقيقة! لكنه في الخيال ومع صوت ثريا، وهي تقرأ سطورا شعرية من خطابات مارون لها وقتما كانت تفرقهم المسافات، يبدو مارون نفسه أو طيفه الرزين الهادئ يجلس بجانبها في السيارة، ويقودها فوق غيمة من هواء النهار البيروتي الجميل متجولاً بثريا بين ربوع الذاكرة ومحاولا أن يجيب على أسئلتها المؤرقة، حول معنى الغياب وسط رحيق الذكريات الذي تفوح رائحته من كل ركن في حياتها.

هذه اللقطة العشرية جداً هي مفتاح قراءة هام لطبيعة النوع الذي اختباره نيقولا لفيلمه، وهي التي تمنح فواصل اللقاءات الطويلة بين نيقولا وثريا التي تتم عبر الإنترنت – هو في لبنان وهي في باريس- الكثير من العمق والمعنى والتأويل، خصوصا مع أسلوب نيقولا في عرض فكرته حول أسباب اختياره لحكاية ثريا ومارون بالذات.

في مشهد مفتاحي هام تقوم ثريا برص أرشيف مارون الضخم، من أوراق وملفات وشرائط كاسيت وأشرطة سينما بمقاسات مختلفة، ومئات الصور وعشرات الدفاتر على طاولة أمام كاميرا نيقولا التي تسجل المكالمة المصورة بينهم، لكننا فيما بعد لا نتجول وسط هذا الأرشيف المغري، ولا تفتحه ورقة ورقة رغم غوايته الرهيبة، بل يبدو كأن نيقولا لا يعنيه الأرشيف التقليدي أو الطبيعي لهذا الفنان صاحب الزخم، الذي لم يمهله القدر لكي يراكمه في أفلام وقصص، بل يعنيه جدا ما تذكره ثريا عن مارون، أو بمعنى أصح ما لا تزال ثريا تعيشه بعد مارون ومعه.

هذا المشهد الذي يبدو فيه الأرشيف مكتظاً بالمعلومات، وربما الأسرار والقصص المخفية، ليس مجرد ثرثرة بصرية لملء الوقت، بل هو إشارة إلينا كي ننتبه إلى ما هو أهم من هذا الأرشيف، روح الزوج والحبيب التي تطرح سؤال البقاء، وتشكك في منظومة الغياب بأكملها.

"حبي الوحيد"

مع تكرار المشهد الشعري لتجول ثريا وبجانبها طيف مارون الذي يتأكد بصوتها عبر كلماته، نتساءل عن ضمير المتكلم في عنوان الفيلم (حبي) هنا يبدو اختيار العنوان ملمح ذكي وشاعري في نفس الوقت، لأنه يحقق وجود مارون من البداية إلى النهاية، "ثريا حبي" هو النداء الذي كان يوجهه مارون لها- وهو بالمناسبة العنوان الذي نسمعها تعترض عليها في الافتتاحية الصوتية على الشاشة السوداء، وهي تقول لنيقولا أن العنوان لا يعجبها ويجب تغييره، فيرد نيقولا أنه عنوان مؤقت، ثم إذا بنا أمام العنوان على الشاشة وجها لوجه! وكأن الفيلم بعد أن انتهى لم يكن يصلح له عنوان آخر!

لا يتبع نيقولا سرد زمني تقليدي، ولكنه يمنح نفسه خطين من الزمن، الأول تراكمي يبدأ من لحظات الاتفاق على الفيلم ثم عملية البحث والاستدعاء والتذكر بشكل تصاعدي بداية من تعارف ثريا ومارون وقت أن كان يبحث عن بطلة لفيلمه الأول المبهر حروب صغيرة عن اقتتال الشوارع وقت الحرب الأهلية، والذي فاز عنه بجائزة هامة في مهرجان كان عام 83، ثم زاوجهم وعلاقتهم الأسرية والعاطفية والروحية وصولا إلى نبأ موته وهي تحمل طفلهم الثالث في باريس ثم حياتها من بعده إلى الآن.

وثمة خط زمني آخر، لكنه أكثر شعرية وحرية وحرارة، هو الخط الخاص بالذكريات المتفرقة لثريا عن لحظات خاصة بينها وبين حبيبها الحاضر الغائب، ولقطات السيارة المتجولة بثريا مع كلماته ومحاولاته المستمرة أن تبحث عن إجابة لأزمتها الوجودية عبر الرقص أو اليوجا أو العودة لسؤال مارون نفسه، عن كيفية تجاوزه ثم استسلامها إلى أحضان طيفه الذي يحتويها دائماً.

الذي أتى!!

يبدأ الفيلم برفض ثريا أن تذوب كلية في ذكرى زوجها الراحل، وينتهي بها تكتشف أنها تعيش داخل دوامة صوفية من الذكريات الحية والنبض الذي لا يغيب لقلب الرجل الوحيد الذي أحبته رغم تلاشيه المادي! 

يبدأ الفيلم وثريا تحاول أن تتحدث عن نفسها دون مارون، وينتهي بها تتحدث عنه فتجد نفسها! حتى ان اللقطة الأخيرة في الفيلم تأتي وثريا جالسة في صالة سينما تشاهد الفيلم نفسه بعد اكتمل جزء كبير منه، ثم حين ينتهي تصورها الكاميرا على الشاشة فكأنها تنظر إلى نفسها، أو كأنها تحققت على الشاشة حين باحت للكاميرا، أو بحثت معها عن إجابات لأزمتها ولأسئلة الذاكرة والغياب التي طالما أرقتها.

ينتهي الفيلم إذن وقد وصلت ثريا لمرفأ وجودي هادي ولحظة تنوير صافية، بل يزيد نيقولا هذا المعنى من الشعر بيت، حين نسمع صوت باب القاعة يفتح وثريا تنهض كي تلتقي بالقادم الذي لا نعرفه، ثم نسمع صوتها من خارج الكادر المثبت على الشاشة بينما تقول: "إنه أنت يا لها من مفاجأة كبيرة!". 

من هو الذي أتى إليها بعد هذه الرحلة مع ذكرى مارون وأسئلة غيابه! هل هو مارون نفسه! هل المفاجأة أو المكافأة التي حصلت عليها في النهاية من نيقولا والفيلم هو يقين ما بأن أسئلة غيابه وأزمة حضورها غير المتحقق قد انتهت حين مضت عبر رحلة الفيلم (ورحلة السيارة التي يقودها عبر كلماته الباقية)، من الذي أتى على المستوى الشعري، واعتبرت ثريا حضوره مفاجأة كبرى عقب أن واجهت نفسها على الشاشة؟ 

هنا يمكن القول أن نيقولا حرر الفيلم في تلك اللحظة من كونه حكاية شخصية عن غياب محدود أو أزمة وجودية تخص صاحبتها، لقد أطلق سؤاله العام حين أراد يجعلنا نتوحد مع ثريا عبر حكايتها مع مارون، ثم نقل إلينا عدوى التساؤل الطيبة: هل يمكن أن يوصف شخص حاضر الذكرى دوما بأنه غائب؟

هل من الضروري أن نبقي على أنفسنا وفق حدود صارمة عن ظلال الآخرين، حتى نشعر أننا تحققنا؟ أم أن حالة الذوبان الوجودية في المحبة الخالصة والشغوفة لشخص ما تعني أننا يمكن ان نتحقق أيضا، ولكن بشكل مختلف!

أخيراً يمكن القول أن تجربة نيقولا خوري الثانية هي خطوة واسعة إلى الأمام مع الأفلام التسجيلية، خطوة يفوح منها الشعر، وتدمغها فلسفة الأسئلة الوجودية، ويؤطرها البحث عن الهامشي، بعيداً عن المتن النمطي أو التقليدي؛ فبدلاً من حكاية المخرج الذي لم يمهله القدر للحديث عن المزيد من الحرب أصبح لدينا فيلماً عن قصة الحب التي استمرت، بين الممثلة الشابة والمخرج الراحل منذ لقائهم الأول قبل عقود، وحتى اللحظة الآنية لتجوالها في سيارتهم القديمة التي يقودها طيفه، على وقع كلماته التي ربما لم تتوقف يوما عن تذكرها وترديدها.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك