خاص
فن

Franz.. "كافكا" الذي دفنته الذاكرة الشعبية وابتلعته الأسطورة

الملصق الدعائي للفيلم البولندي Franz  للمخرجة أجنيسكا هولاند - المكتب الإعلامي لمهرجان القاهرة السينمائي
الملصق الدعائي للفيلم البولندي Franz للمخرجة أجنيسكا هولاند - المكتب الإعلامي لمهرجان القاهرة السينمائي
القاهرة -حنان أبو الضياء*

بعد نحو عام من الذكرى المئوية لميلاد الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا، قدّم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عرضاً لفيلم Franz للمخرجة البولندية أجنيسكا هولاند، وسيناريو ماريك إبستاين. 

على مدى عقود، شكلت أعمال كافكا مصدر إلهام لصناع السينما حول العالم لصنع أفلام "كافكوية" بامتياز: متوترة، عبثية، غارقة في القلق والاغتراب، تماماً كما صيغت أسطورة الكاتب الذي أصبح أحد أبرز رموز الأدب في القرن العشرين.

الفيلم الذي حظي بعرضه العالمي الأول في مهرجان تورنتو السينمائي، اختارته بولندا ليمثلها في سباق الأوسكار الثامن والتسعين عن فئة أفضل فيلم دولي، وهو محاولة سينمائية واسعة ومركبة للغوص في سيرة الكاتب، ممتدة من طفولته حتى سنواته الأخيرة.

بنية سردية غير تقليدية

لا تُعد أفلام السيرة الذاتية تحدياً جديداً لهولاند، التي سبق أن اقتبست مسرحية The Trial عام 1981 للتلفزيون البولندي، لكن فيلم Franz يذهب نحو معالجة سردية متشعبة، إذ تتبع المخرجة حياة كافكا من بداياته حتى وفاته المبكرة، في بناء سينمائي متعدد الطبقات والأنماط. 

ويجسّد الممثل إيدان فايس دور كافكا الناضج، بينما يؤدي دانييل دونجريس دور الشاب فرانز، ومعهما جينوفيفا بوكوفا (ميلينا جيسينسكا) وكارول شولر (فيليس باور).

يقدم الفيلم صورة مركبة لبراغ في مطلع القرن العشرين: فرانز كافكا ممزق بين قبضة والده الصارم هيرمان كافكا، ووظيفته الرتيبة في شركة تأمين، وشغفه المُلح بالكتابة كوسيلة وحيدة للتعبير عن أعماقه.

ومع أن نصوصه تبدأ في جذب الانتباه، يبقى كافكا واقفاً بين عالمين: عالم التوافق والطاعة، وعالم الذات المتفجرة بالأفكار، فيختبر علاقات مع نساء يفتتن بهن، لكنه يهرب من القرب بمجرد حدوثه، وفي الخلفية يقف الناشر والصديق الوفي ماكس برود، الذي يسانده منذ بداياته.

هذا الكم الهائل من الحقائق

يعرض الفيلم تفاصيل عديدة عن عائلته، عن عمله الذي كرهه في شركة التأمين، عن علاقاته المتأزمة، وعن معاناته مع مرض السل، لكن هذا التراكم الكبير من التفاصيل يجعل السرد أحياناً أقرب إلى "موسوعة" مُصوّرة منه إلى فيلم سينمائي متماسك.

ورغم هذا الزخم المعلوماتي، ينجح الفيلم بصرياً في إعادة إحياء براغ عشرينيات القرن الماضي، بالاعتماد على العمارة التكعيبية والأثاث والملابس المستوحاة من تلك الحقبة، كما تقلص هولاند الزمن لتدمج بين الماضي والحاضر، من خلال مشاهد في متحف كافكا، وجولات سياحية، وحتى سلع تجارية تحمل اسمه، في محاولة لتصوير كيف تحوّل الكاتب إلى "منتج ثقافي" استهلكته المخيلة العامة.

غير أن الفيلم، مع ذلك، يعيد إنتاج الصورة النمطية لكافكا كما رسختها الذاكرة الشعبية، دون اختراق عميق لما وراء الأسطورة.

الخط الذي صار أسطورة

يشتهر كافكا بجمال خطه وحرصه على الكتابة باليد، رغم انتشار الآلة الكاتبة آنذاك، تعرض مخطوطاته اليوم في المتاحف، وقد اكتسبت مكانة أيقونية، يستثمر الفيلم هذا الإرث عبر مشاهد عدة لصفحات تتطاير على درج المتحف، أو حبّات حبر تسيل، أو رسائل حب تُقرأ كأنها وميض من زمن ضائع.

لكن هذه الصور – كما يلاحظ الفيلم ذاته – ليست سوى "نسخ طبق الأصل"، تشبه السيرة التي يصنعها الفيلم: جميلة، أنيقة، لكنها سطحية مقارنة بعمق الرجل الحقيقي الذي ضاع بين طبقات الأسطرة.

يعاني السيناريو من الركود في بعض مقاطع السرد؛ إذ يتنقل بين طفولة كافكا وشبابه وعلاقاته الكثيرة، لكنه لا يكسر إيقاع أفلام السيرة التقليدية، ويزيد الأمر تعقيداً اعتماد الفيلم على التشابه الشكلي بين الممثلين ونظرائهم الحقيقيين، وإعادة إنتاج الملابس والصور والشهادات حرفياً.

يُحاكي الحوار نصوص كافكا نفسها، بل يتحوّل أحياناً إلى مونولوجات تُلقى مباشرة إلى الكاميرا، ورغم أن هذه التقنية تُضفي طابعاً وثائقياً، إلا أنها تفقد الفيلم بعضاً من حيويته.

يمتلئ الفيلم بلقطات غريبة أو رمزية تطرح تساؤلات: حبّة كرز معلّقة فوق شفتي كافكا وهو ممدّد على الأرض، مراقبته للفتيات من تحت التنانير، مشهد شد الحبل في مصحّة بين رجال بأقنعة حيوانات، سخرية من السياحة الثقافية عبر "برجر كافكا".

قد تحمل هذه المشاهد دلالات رمزية واضحة، لكنها تأتي دون سياق درامي يبرّرها، فيثير ذلك تساؤلاً: لماذا كل هذه الصدمة الشكلية؟

حضور من دون تحليل

تظهر إشارات متكررة إلى هوية كافكا اليهودية، لكن الفيلم لا يذهب بعيدًا في شرح تأثيرها على أدبه، أو على مكانته التاريخية، مكتفيًا بلمسات عابرة حول محاولات الأنظمة السياسية السابقة محو إرثه.

يمزج الفيلم بين كافكا الأسطورة – الفنان المعذَّب الذي تُطارده العزلة وسوء الفهم – وكافكا الإنسان، لكنه لا يتمكن دائمًا من إيجاد مسافة تحليلية بينهما. وكأن محاولة الاقتراب من جوهره تُعيد إنتاج نفس صورته النمطية التي حاول هو نفسه التحرر منها.

يحمل الفيلم إيماناً صادقاً بأن كافكا شخصية عظيمة، وأن عزلة الفنان تضحية ثمينة، وتبدو هولاند شديدة التمسك بهذا الطابع الميتافيزيقي، فتقدمه أحياناً داخل زنزانة، وأحياناً على خشبة مسرح، أو وسط مرايا لا نهائية، في استعارات بصرية مكثفة.

ويشير الفيلم إلى أن "الهوية الثلاثية" لكافكا – نصف بولندي، نصف يهودي، يعيش في بلد مضطهد – جعلته رمزًا صعب التصنيف، ومحورًا للصراع بين الفن الشعبي والتاريخي.

جوهر كافكا

يحاول فيلم Franz أن يجيب عن سؤال: ما هو جوهر كافكا؟ وكيف دُفن هذا الجوهر تحت طبقات الثقافة الشعبية؟

لكن رغم براعته البصرية، وفضوله الفكري، وشغف هولاند الظاهر بالكاتب، يظل الفيلم – كما تقول إحدى مشاهده الأهم – مجرد محاولة أخرى لالتقاط "العابر" في حياة رجل جعل من الغموض أسلوباً دائماً للوجود.

وفي النهاية، يظل Franz فيلماً طموحاً، شديد الجمال بصرياً، لكنه يعاني من غياب رؤية فريدة تُميّزه عن كمّ الأعمال التي حاولت من قبل تفكيك شخصية كافكا.

*ناقدة فنية

تصنيفات

قصص قد تهمك