الممثل الجيد هو الذي يلفت نظرك ببراعة "أداءه" للشخصية التي يلعبها، ولكن هناك نوع من الممثلين يجعلك تعتقد أنه يعيش شخصيته الحقيقية على الشاشة.
تنتمي النجمة الفرنسية جولييت بينوش، التي يكرمها مهرجان البحر الأحمر في دورته الحالية، لهذا النوع من الممثلين الذين "يعيشون الدور"، وينتمون إلى مدرسة "التقمص الكامل" (التي يطلق عليها مدرسة الـ method)، حتى يعتقد المشاهد أنها بالفعل الشخصية التي تظهر بها.. أو على الأقل يعتقد أنها تشبه هذه الشخصية.. أو بمعنى آخر يشعر أن الشخصية هي التي تشبه الممثلة، وأنها، ربما، كتبت على مقاسها ومن أجلها.. ويصعب أن يكون لها وجود مستقل بعيداً عنها.
ورق يتجسد حياً
خذ عندك، مثلاً، شخصية تيريزا من رواية "خفة الوجود التي لا تحتمل" لميلان كونديرا، والتي تحولت إلى فيلم بالعنوان نفسه The Unbearable Lightness Of Being من إخراج فيليب كاوفمان، 1988. وهو واحد من أوائل الأفلام التي عبرت المتوسط والمحيط لتصل إلينا على شرائط VHS في بداية التسعينيات، وكان مدخلنا للتعرف على جولييت بينوش. إذا كنت قد شاهدت الفيلم، فقد تشعر أن شخصية تيريزا قد كتبت خصيصاً لبينوش.
ورغم أن الفيلم لا يرقى لعظمة الرواية المقتبس عنها، إلا أن أداء بينوش لتيريزا (وأداء المتقمص الآخر دانيال داي لويس لشخصية توماش) لا يمكن نسيانها أو التفكير في الرواية بمعزلٍ عن الفيلم.. لدرجة أنه بات من الصعب إعادة قراءة الرواية من دون التفكير في الاثنين. شيء أشبه بالتفكير في أداء يحيى شاهين لشخصية السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ التي يبدو وكأنها خرجت تمشي من بين الورق.
ومن الحكايات المتداولة هنا (بما أن الحديث يجر بعضه) أن محمود مرسي، وهو ممثل قدير، لعب شخصية السيد في مسلسل تليفزيوني، قال في معرض المقارنة بينه ويحيى شاهين أن الشخصية كانت تبحث عن شاهين، بينما ظل هو طوال العمل يبحث عنها.
شخصيات تبحث عن ممثلة
هكذا تشعرنا جولييت بينوش أن الشخصيات هي التي تبحث عنها وليس العكس.
وإذا كنت قد شاهدت The English Patient، أنطوني مينجلا، 1996، مثلاً، وهو أيضا عن رواية أدبية من تأليف مايكل أونداتى، فربما تقول لنفسك أن شخصية هانا، ملاك الرحمة التي تُمرض الجندي المحترق، قد كتبت خصيصاً لكي تلعبها بينوش!
لا عجب إذن أن تفوز بينوش عن دورها القصير في The English Patient بجائزة أفضل ممثلة من مهرجان "برلين"، ثم بجائزة البافتا، لتتوج في نهاية العام بجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة في دور ثانٍ.
تملك جوليت بينوش مقومات النجوم من جمال وجاذبية وأناقة، لكنها قبل ذلك، وبعده واحدة من الممثلات الكبيرات في عصرنا.
وهي ممثلة كبيرة ليس فقط لإنها تجيد تشخيص أي دور يسند لها، ولكن لإنها أيضاً تضع الفيلم قبل النجم، والشخصية قبل الممثل، ولا تكتفي بقبول أو رفض ما يعرض عليها، ولكنها "صانعة أفلام" تبحث دوماً عن الجديد والمبتكر، وتطرق دوماً أبواباً جديدة، وتسير في دروب غير ممهدة كما لو أن كل فيلم تصنعه رحلة إلى المجهول.
جولييت المولودة في باريس 1964، لأبوين فنانين مغمورين، شربت فن التمثيل منذ نعومة أظفارها، فقد كان أبوها ممثلا ومخرجا مسرحياً، وأمها ممثلة ومعلمة تمثيل كانت أول من تعلمت منها جولييت وقلدتها. ولكن هذه الطفولة سرعان ما اعتراها اضطراب حاد نتيجة انفصال أبويها وعمرها 4 سنوات، ما جعلها تضطر إلى التنقل طوال الوقت بين بيتي أبويها وبيت خالتها وحتى الإقامة أحياناً في المدرسة الداخلية! مع ذلك ترى بينوش في حوار حديث لها مع محطة BBC أن هذه الحياة غير المستقرة في طفولتها لعبت دوراً محورياً في عملها كممثلة: "أعتقد أنها ساعدتني كثيرا كممثلة، لأنها تفتح قلبك بطريقة ما، إنها تؤلم ولكن عليك أن تجد داخلك وسيلة للنجاة".
ملكة السينما الأوروبية
في سن الثامنة عشر تتلمذت جولييت على يد فيرا كريج، الممثلة وأستاذة التمثيل الفرنسية، والتي تقول عنها: "هي التي جعلتني أكف عن التمثيل، وأتعلم كيف أعيد خلق الحياة"، وهو الدرس الذي تعلمته وأتقنته لاحقاً.
وفي عمر التاسعة عشر بدأت العمل في السينما، وكان أول أفلامها مع عراب وأسطورة السينما الجديدة جان لوك جودار في فيلمه Hail Mary، 1983، ولكن خطوتها الكبرى جاءت في 1985، مع المخرج أندريه تشيينيه، حيث لعبت أولى بطولاتها في فيلم Rendez- vous، الذي اختير للمسابقة الرسمية في مهرجان "كان".
ومنذ ذلك الحين تحولت جولييت بينوش إلى واحدة من أيقونات السينما الفرنسية والأوروبية والعالمية.
على مدار أربعة عقود من العمل شاركت بينوش في أكثر من 70 فيلماً، بجانب عدد من الأعمال التليفزيونية والمسرحيات. ولكن الأهم حتى من العدد هو الكيف، فقد عملت مع عدد من أكبر المخرجين الأوربيين والعالميين.
من بين هؤلاء المخرجين ليوس كاراكس، رفيق حياتها الأول، الذي لعبت بطولة اثنين من أفلامه كان أولهما "دم فاسد" Mauvais Sang الذي شارك في مسابقة مهرجان برلين ورشح لعدد من جوائز سيزار كما حصل على جائزة لوي- ديلوك كأفضل فيلم فرنسي لعام 1986.
وفي فيلمهما الثاني معاً "عشاق الجسر التاسع" Les Amants du Pont-Neuf،1991، الذي كان أيضا واحداً من أوائل أفلامها التي عبرت المتوسط ليشارك في مهرجان القاهرة السينمائي، تلعب جولييت بينوش واحداً من أصعب وأجرأ أدوارها، كرسامة فقيرة تصاب بمرض نادر يجعلها تفقد البصر تدريجياً، بينما تتعرف على وتصادق فنان سيرك متشرد مدمن، وهو العمل الذي كادت تغرق أثناء تصويره ونجت بأعجوبة. من يومها باتت أكثر حرصاً من التقمص الزائد عن الحد، كما تقول: "تعلمت أن الحياة تأتي أولاً قبل الأفلام."
من الصعب الحديث عن كل فيلم شاركت فيه جولييت بينوش، ولكن يكفي أن نلقي نظرة على أسماء المخرجين والأفلام التي شاركت فيها لندرك التنوع والمستوى الرفيع لاختياراتها.
من دورها الصعب في فيلم Blue Three Colors: رائعة كريستوف كيشلوفسكي، والذي حصلت عنه على أفضل ممثلة من مهرجان فينيسيا، وجائزة سيزار التي تعادل الأوسكار في فرنسا، إلى النقيض منه تماماً دورها في الفيلم الرومانتيكي اللطيف Chocolate، أمام النجم جوني ديب، من إخراج لاس هالشتروم، 2000.
من أعمالها المميزة أيضا دورها في فيلم Cache أو Hidden، للمخرج النمسوي الكبير ميكائيل هاينكه، ودورها في A Couch In New York لشانتال إيكرمان، التي يعاد اكتشافها مؤخرا، والتي اختير فيلمها Jeanne Dielman في استطلاع مجلة Sight & Sound كأفضل فيلم في تاريخ السينما!
عملت بينوش أيضا مع المخرج الإيراني الكبير عباس كياروستامي (الذي ارتبطت به بعض الوقت) في فيلم Shirin كواحدة من المتفرجات تجلس لتشاهد فيلماً آخر طوال الوقت (!) ثم أعقبته ببطولة Certified Copy، والذي حصلت عنه على جائزة أفضل ممثلة من مهرجان "كان" في 2010. هذه الجائزة التي دشنت اسمها كملكة للسينما الأوربية بحصولها على جوائز المهرجانات الأوروبية الكبرى الثلاثة: كان وبرلين وفينيسا!
ممثلة كوزموبوليتانية!
يتجسد في Certified Copy فكرة الممثل الذي يذوب في الشخصية التي يؤديها حتى يصعب تحديد الفارق أو الحدود بين الاثنين.
طوال الفيلم لا يستطيع المشاهد أن يحدد: هل ما يشاهده هو الشخصيتين محور العمل (زوجان يقضيان عطلة في إيطاليا يتشاحنان بشأن علاقتهما) أم أنهما اثنين من الممثلين يؤديان هاتين الشخصيتين!
من أدوار بينوش الصعبة والمميزة أيضا أداءها لشخصية النحاتة كاميل كلوديل في فيلم Camille Claudel 1915، مع المخرج برونو دومو..
لا يمكن أيضا إغفال عملها مع المخرج الكندي الكبير ديفيد كروننبرج في Cosmopolis، ومؤخرا مع التايواني تران أن هونج في فيلم The Taste of Things.. كما لا يمكن إغفال عملها مع أسماء أخرى عديدة منهم جاك دوليون، لوي مال، كلير دوني، ناومي كوازي، جون بورمان، صافي نيبو، هو سياو- سين، باتريس لاكونت، أبل فيرارا، هيروكازو كور- إيدا، أوبرتو بازوليني، وغيرهم.
باختصار، هي أكثر نجمة فرنسية عملت مع مخرجين غير فرنسيين، من أميركا وإنجلترا إلى إيطاليا وبلجيكا واليابان وتايوان وإيران وأفريقيا. وإذا أضفنا إلى ذلك عملها في أفلام هوليوودية "شعبية" مثل Godzilla، جولييت بينوش قد تكون الممثلة الأكثر "كوزموبوليتانية" و"يونيفرسالية"، وهي بالتأكيد الممثلة الأكثر تعبيراً عن مسقط رأسها باريس.
جولييت، ذات الأم البولندية والأب الفرنسي، تجسد روح فرنسا الطيبة التي أسست لشعار الحرية المساواة والإخاء، وألوان العلم الفرنسي الأحمر والأبيض والأزرق (والتي جسدها كيشلوفسكي في ثلاثية "ألوان"، وعبرت بينوش فيها عن الأزرق لون التسامح والإخاء بين البشر.
من المشاهد التي لا تنسى في هذا الفيلم شخصية جولي، المرأة الحزينة والرافضة للحياة بعد مصرع زوجها وابنتها، وقد بدأت تستعيد إحساسها بالحياة مجددا: تجلس في الشمس في أحد المقاهي، وتطلب فنجالاً من القهوة، وتضع به قطعة من السكر تذوب بالتدريج في المشروب، وتبدو جولييت في هذه اللحظة وكأنها قد ذابت في شخصية جولي مثل السكر في القهوة!
* ناقد فني











