خاص
فن

الفيلم اللبناني "نجوم الأمل والألم".. كيف تروي قصة نعرفها جيداً؟

مشهد من الفيلم اللبناني "نجوم الأمل والألم" للمخرج سيريل عريس - المكتب الإعلامي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي
مشهد من الفيلم اللبناني "نجوم الأمل والألم" للمخرج سيريل عريس - المكتب الإعلامي لمهرجان البحر الأحمر السينمائي
جدة -نور هشام السيف

كيف يمكن للسينما أن تقترب من أثر الحرب من دون أن تسميها؟ كيف يصور الخراب حين يفقد صفته الحدثية ويستقر كحالة يومية، كيف يصبح العالم جميلاً وحزيناً في آن واحد من دون أن يطلب التعاطف أو يلوح بالخلاص؟ 

هذه الأسئلة تتكاثر مع فيلم "نجوم الأمل والألم"، للمخرج  سيريل عريس، الذي حصل مؤخراً على جائزة أحسن سيناريو عن فيلم روائي طويل، في مهرجان البحر الأحمر السينمائي.

يتحرك العمل، الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي، داخل منطقة رمادية بين ذاكرة زمن الحرب والتعب الذي يستمر سنوات طويلة من بعده، ووضعنا طرحه في مقارنة لا واعية بين ما شوهد سابقاً من أعمال تناولت نفس المحور، و ما يرى الآن كأنه للمرة الأولى.

عندما نرى الصورة الإجمالية للتجربة السينمائية اللبنانية، تظهر الحرب الأهلية غالباً كظل يقود الصورة وأحياناً كثيرة تتصدر هي الصورة المباشرة، الحرب التي استمرت على مدار عقود، لابد من سطوتها في توجيه السرد، والإمساك بخيوط الزمن.

شاهدنا أفلاماً كثيرة اشتغلت على تفكيك الأرشيف، على مساءلة البيوت، على الوجوه التي نجت، ويحيك السؤال ضمن الحبكة: ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ و كيف ترك كل هذا الأثر؟ 

أما الطرح في حكاية "نجوم الأمل والألم"، هو عن معنى العيش داخل الأثر بعد أن فقد اسمه (الحرب)، وعن معنى استمرارية الحياة حين يتحول الخراب إلى إيقاع.

حلم الجزيرة المنسي

تبدأ الحكاية  حول طفلين "نينو" و "ياسمينة" يهربان بعد دوام المدرسة إلى قطار مهجور، و يحلمان بالهرب عبر هذا القطار إلى مكان سحري بلا توقف، هل كانت الجزيرة النائية حلماً؟ أم تمريناً مبكراً على الهرب؟ يتفرق الطفلان في أعقاب الحرب الأهلية، وقد سخبتهما الفوضى إلى مسارين متباعدين قبل أن يكتمل وعيهما بالعالم.

أثناء ذلك، توفي والدي نينو أثر تعرضهما لقذيفة داخل السيارة، كما ينفصل والدي ياسمينة بعد مشاحنات مصحوبة بخلفية أصوات الرصاص والمتفجرات، تغادر الطفلة المنزل مع والدتها بلا رجعة، تمر السنوات بلا إعلان واضح، نشاهد  الشاب نينو ويقوم بدوره الممثل اللبناني  "حسين عقل" وهو يعمل في مطعم جده، ويقوم بدوره الممثل القدير "كميل سلامة" المطعم  النابض بحميمية الديكور المنزلي و ذكريات العائلة.

تمر زوايا التصوير في إيقاع رشيق وهي تستعرض كيفية قضاء نينو في تنسيق حاجيات المطعم، والإشراف على كواليس المطبخ مع صديقه الطاهي و زوجته، كل ذلك في لمسة من  الديناميكية والعبث والكوميديا السوداء داخل حيز ضيق لإرضاء الزبائن، وفي ذات الوقت، التأكيد والإصرار على نكهات و مقادير خاصة بلائحة الطعام يمنع عنها الإضافة أو الحذف، يتشدق نينو بهذه الصرامة  بابتسامة استفزازية ثابتة، لا حاجة للتبرير لعدم التغيير، يقول هذا بطريقته الخاصة، فيما العالم خارج هذا الحيز المكاني من حوله، يعاد تشكيله مرات ومرات.

أولى نماذج التشكيل هي "ياسمينة" تقوم بدورها الممثلة والمخرجة مُنية عقيل، في تعاونها الثاني مع المخرج سيريل عريس بعد فيلم "زيارة الرئيس"2017، ياسمينة التي أكملت دراستها الجامعية و تعمل مستشارة مالية، مهنة تقوم على التطوير والتوقع والحسابات، بينما في حساباتها الداخلية ترفض ياسمينا أي ضمانات، تحلم بالسفر، بالهجرة، بالخروج من بلد لا يمنح شعوراً بالاستقرار، فهل قرارها نابع من طموح مهني؟ أم من خوف قديم تشكل مع انفصال الوالدين خلال الحرب؟ 

بعد هذا التعريف البصري بين حياتين، متوقع التالي إذن: مشهدية نمطية عن قطبين مختلفين في الحبكة السينمائية "نينو" الحماسي المرح، "ياسمينة" الجادة والعملية الهادئة.

وكما هو متوقع أيضاُ، تبدأ الأمور غالباً بالمناكفات، خاصة عندما يتعامل الرجل مخففاً من الحواجز، في المقابل، الشخصية النسائية في غاية الجدية والبراجماتية، وبعد استلطاف مبطن تنتعش ذاكرتهما  بنعومة، دون دهشة الصدف، و بلحظة استيعاب منزوعة الدسم، يقفز سيريل عريس (مخرج العمل وكاتبه بالتعاون مع بان فقيه) فوق هذه اللحظات، إدراكاً منه أن بيروت بكل تناقضاتها، عجائبها، ثوراتها و انتفاضتها، لم يعد أناسها يدهشون لشيء، لكنهم يحيون بالضحك على المأساة و يتمسكون بالحياة و الحب لأجل الحب و لأجل اللحظة الآنية.

وهذا ما حدث إذن، ولد الحب بعد مناكفات! وفوارق اجتماعية واضحة، يتعرفان على بعضهما بنسختهما الشابة الجديدة عبر الحب، من حب الطفولة، في انتظار تحرك القطار السحري، إلى حب البلوغ في لحظة نزق ومغامرة في شوارع بيروت الليلية،  وإحداث شغب عبر ركوب أسطح السيارات، بلا حسابات للعواقب، إنه عبث الرغبة و الجموح، إنها اللحظة الفاصلة، لحظة نسيان مؤقتة لاسميهما و تاريخهما، وكل ما يحملانه من شوائب.

ما يهم في هذه الحكاية، عدا عن تسلسلها، هو أثرها، جرح الطفولة وصوت القطار في المخيلة، والإحساس الدائم أن الرحلة لم تبدأ بعد!

الفيلم يتعامل مع نينو و ياسمينة كثنائي حب تحت وطأة جراح عميقة غير معلنة، هناك طرف عملي جداً، ياسمينة، غير مؤمنة بالزواج والإنجاب إثر انهيار منظومة العائلة لديها في وقت مبكر، وحبيبها الطرف الحالم جداً، بالأرض والحياة البسيطة والاكتفاء الذاتي، بما هو متوفر ومتاح.

تُرى، من أين يأتي نينو بهذا التفاؤل، وقد تفجر والديه أمامه في السيارة، بينما بقي هو حي يرزق في المقعد الخلفي؟، وكيف لياسمينة أن تكبر وهي مثقلة بهذا القدر من التردد تجاه الحياة؟ تحمل معها عقدة انفصال والديها التي أنتجت لديها عدم التعلق بأي شيء.

من أين جاء كل هذا الأمل؟

عندما نتعمق في الاستفهامات السابقة، نرى أن الصورة لدى نينو الطفل قد سبقت اللغة، والصدمة سبقت الفهم، حين كان يسأل جده عن والديه، تأتي الإجابة بصيغة مكان، جزيرة، مساحة واسعة، بعيدة، مفتوحة، في مثل هذه اللحظات، يقوم الخيال بدور الوسيط، يرش عليه ذرات الجمال والرهافة والوداعة، ليجعله قابلاً للعيش، وتتغير المفاهيم تدريجياً، الفقد يتحول إلى انتقال، والغياب إلى سفر.

ربما لهذا لم يكبر نينو كمن يعيش تحت تهديد دائم، بل يبدو العالم لديه مألوفاً، رغم حقيقة الفقد المستقرة في خلفية الذاكرة.

في المقابل، تتشكل نظرة ياسمينة إلى العالم باللاحسم، الحياة هي سلسلة من انقطاعات صغيرة، بيت يتغير شكله، علاقة هرمية تصدعت، رمز الأمان الأبوي اختفى، والانفصال العائلي تحديداً، لا ينهي الرابط، لكنه يربكه، القرب يفقد يقينه، والاستقرار أيضاً يخل بوعده  أحياناً.

كبرت ياسمينة وهي ترى أن مؤسسة الزواج مقامرة في وطن هش، حتى الحب عندما ظهر لها بلا ميعاد، وضعت له منذ البداية مساحة مشروطة.

الفارق بين ياسمينة ونينو يتبدى في نوعية التجربة الأولى مع الفقد، أحدهما عاش غياباً مكتملاً، قبل أن يدرك معناه، فحماه التأجيل في استعارة "الجزيرة" وياسمينة عاشت تفككاً وهي تعي بما يكفي لتشعر به، فهل يكون الألم أحياناً أقل وطأة حين يأتي دفعة واحدة؟ وهل يترك التدرج جرحاً أطول عمراً؟

الفيلم لا يطرح الأسئلة بشكل مباشر ليجيب عنها,، لكنه يترك الشخصيتين تتحركان داخلها، نينو يحمل الأمل لأنه تجاوز ما حدث ولأنه يرى عالمه في مطعمه العائلي مع جده، ياسمينة لا تتجاوز كونها لم تختبر ثبات الحياة، وبين أمل نينو وألم ياسمينة هناك بحث عن لحظة توازن عابرة مع تصاعد الأزمات التي تمر بها البلد

كيف يروى "العادي"؟ 

إذا كانت قصة نينو و ياسمينة تبدو مألوفة ضمن سينما الحرب بالمراحل الثلاث (حب طفولة، فقد، الرغبة في الرحيل) فما الذي يجعلها تستمر في أحداث الفيلم؟ خاصة أن هذه العناصر تناولتها السينما كثيراً، مالطريقة التي  ألحم فيها السيناريو (الفائز) هذه الثلاثية التقليدية.

السيناريو في "نجوم الأمل والألم" يضيف طبقات تفسيرية بين حين وآخر، لكنه يختار طريقا أكثر هدوءاً من أي انعطافات حادة، وربما أكثر مغامرة وهي ترك الشخصيات تتحرك داخل وضع معروف مسبقاً ويضاف إليه بعض التبرير، ثم يتجه نحو الاقتصاد  السردي، بساطة السيناريو  لا تمنحه الميزة المطلوبة، ربما يحسب لصالحه فنياً مقاومته الإغراء الدرامي الثقيل حتى النهاية.

نحن أمام مفترق طرق منذ أول لحظات الفيلم، وترك المسارات مفتوحة في نهايته، إذ أن الحب لا يقدم ببساطة كخلاص، و الحروب لا تقدم كخطاب،  والهجرة لا تقدم أيضا كحل منقذ، المنفذ الواضح لجميع الشخصيات في آخر المطاف هو الغضب، الغضب الكامن، الغضب الطاريء على صغائر الأمور، الغضب المشتعل على مشارف الموت.

وهذا الشعور أيضاً رغم منطقيته، إلا أنه محسوب بميزان لدى المخرج سيريل عريس، كونه يرغب في نقش "الألم" دون استعراض صوتي صارخ، ربما جاءت الجائزة لتحتفي بالبساطة عن قصة سمعناها كثيراً، لكن، هل لاحظتم كيف تسحب منها  كل الزوائد؟

في النهاية، هذا العمل لا يريد أن يكون بياناً، ولا وعداً، ولا ذروة، إنه محاولة لعلامة صغيرة داخل مسار طويل من سينما تبحث عن لغة تتعامل من خلالها مع "الأثر"، و تنحي حدثه الضخم جانباً، خيار  موزون، يترك سؤالاً مفتوحاً حول ما إذا كان كافياً لقول شيء جديد عن قصص نعرفها جيداً.

تصنيفات

قصص قد تهمك