كان محمد بكري (1953- 2025) هو أول ممثل فلسطيني أتعرف عليه كمشاهد من خلال فيلم Hanna K (إخراج كوستا جافراس في عام 1983)، عندما عُرض على شاشة التلفزيون المصري ضمن برنامج "نادي السينما" أو ربما برنامج "أوسكار"، منذ ما يقرب من 40 عاماً.
في هذا الفيلم يؤدي بكري دور شاب فلسطيني (اسمه سليم بكري) يظل يعود، متسللاً، إلى فلسطين المحتلة ليطالب ببيت عائلته الذي استولت عليه العصابات الصهيونية، يتخلصون منه ويطردونه خارج الحدود، فيعاود التسلل إلى الداخل، ويتعرض للمحاكمة، وتساعده محامية يهودية (تلعب دورها جيل كلايبورج) في الدفاع عنه والمطالبة بعودة حقوقه إليه، رغم محاولات كل من حولها لإسكاتها وإقناعها بالتخلي عنه.
قنبلة سينمائية
كان محمد بكري، كما ظهر في Hanna K، وسيماً، جذاباً، غامضاً، ومهيباً، رغم ضعف الوضع المفروض عليه كسجين نزعت عنه أرضه وجنسيته، ومجرد وجوده (كما يبين الفيلم بذكاء) هو مصدر قلق وخوف للاسرائيليين.. ورغم براءته الظاهرة، لكنه، بقامته المشدودة ونظرة عينيه الزرقاوين التي تحمل إصراراً وغضباً مكتوماً، أشبه بقنبلة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ويترك الفيلم الباب مفتوحاً على احتمال أن الشاب ربما يُخفي فدائياً مقاوماً خلف مظهره البرئ الصامت.
في زمنه، كان الفيلم حدثاً سياسياً في السينما الغربية، وقد تعرض مخرجه، اليوناني الأصل، وصاحب فيلم Z الذي حصل على الأوسكار في عام 1970، إلى الاضطهاد والتضييق من قبل اللوبي الصهيوني، كما حدث مع الممثلة الإنجليزية فانيسا ريدجريف، وغيرها من الأصوات القليلة التي دافعت عن الحق الفلسطيني.
أدوار متباينة في تجارب كلاسيكية
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومن خلال مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، شاهدت اثنين من كلاسيكيات السينما الفلسطينية، كان يشارك في بطولتهما محمد بكري، الأول هو "حكاية الجواهر الثلاثة" (1995) للمخرج ميشيل خليفي، والثاني هو "حيفا" (1996) للمخرج رشيد مشهراوي.
الفيلمان يلتقطان تحولات المزاج الفلسطيني بين أواخر الانتفاضة الأولى وبدايات مرحلة أوسلو، فحكاية الجواهر الثلاثة يعود إلى غزة في أواخر الثمانينيات، و"حيفا" يدور في مخيم للاجئين الفلسطينيين على خلفية التعويل على "عملية السلام".
يلعب محمد بكري دورين مختلفين تماماً، ففي الفيلم الأول، الشبيه بحكايات الأطفال، يلعب دور والد البطلة الصغيرة التي تشترط على صديقها الصغير، لكي يتزوجها، أن يأتي لها بالجواهر السحرية الثلاث، أما في الثاني فيؤدي دور البطولة من خلال شخصية متشرد "مجنون" اسمه حيفا، قبيل وأثناء إعلان اتفاقية أوسلو مباشرة.
في بداية الألفية الجديدة، التقيت محمد بكري للمرة الأولى في باريس، ضمن فعاليات مهرجان السينما العربية الذي كان يقيمه معهد العالم العربي، ذات يوم غادرنا الفندق معاً، بكري وأنا وبصحبتنا الناقد أمير العمري، متوجهين إلى مقر المهرجان بالمعهد لحضور الفعاليات، ولأن المسافة بين الفندق والمعهد قريبة فقد شرعنا في السير، ولكن بعد قليل اكتشفنا أنني والعمري نلهث وراء محمد بكري للحاق بخطوته السريعة القوية، وعندما ناديناه لنطلب منه أن يهدىء السير قليلاً، ضحك ضحكته المميزة، وقال معتذراً: "سامحوني نحن أهل الجبل تعودنا على السير بهذه الطريقة!".
في كل مرة التقيته بعدها، حتى بالرغم من زحف الشيخوخة والمرض، ظل محمد بكري في عيني، هو ابن الجبل والريف الفلسطيني العريق، الذي يحمل من الجبل شموخه وعزته، ومن الريف وداعته وكرمه.
"جنين جنين"
في مهرجان معهد العالم العربي، كان محمد بكري مشاركاً بفيلمه الوثائقي "جنين جنين" في عام 2003، والذي يتناول واحدة من المذابح التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في مخيم جنين، وقد شارك الفيلم في مهرجان "الإسماعيلية". لكن بكري لم يستطع الحضور وقتها نظراً لتعقيدات إجراءات دخول فلسطينيي الداخل (أو عرب 48 كما يطلق عليهم) إلى مصر في ذلك الوقت، على الرغم من أن بكري زار مصر عدة مرات مع أفلامه اللاحقة.
كان "جنين جنين" عملاً راديكالياً، خاصة من قبل شخص يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويعمل في المسرح والسينما والتلفزيون الإسرائيليين.
تعرض محمد بكري بسبب الفيلم لشتى أنواع التضييق والتحرش والمنع من العمل، وصودر الفيلم في النهاية بحكم قضائي، ووُضع بكري في القائمة الإسرائيلية السوداء حتى وفاته.
سجل بكري بعض هذه المتاعب التي تعرض لها في فيلمه الوثائقي التالي "منيوم مارحت" (2005)، وهو شبه سيرة ذاتية بديعة فنياً وإنسانياً.
سنوات ازدهار السينما الفلسطينية
مع الازدهار الذي شهدته السينما الفلسطينية في بداية الألفية الجديدة، شارك محمد بكري في العديد من الأعمال المتميزة لمخرجين فلسطينيين، مثل فيلم "عيد ميلاد ليلى" لرشيد مشهراوي (2008)، و"جيرافادا" للمخرج راني مصالحة (2013)، و"واجب" للمخرجة آن ماري جاسر (2017)، و"الغريب" للمخرج أمير فخر الدين (2021)، و"ما بعد" للمخرجة مها حاج، وأخيراً "اللي باقي منك" للمخرجة شيرين دعبس في عام 2025.
في دراسة عن السينما الفلسطينية، يورد الناقد يوسف يوسف، أسماء 801 فيلم وثائقي وروائي صنعها عرب وأجانب، عن القضية الفلسطينية، والتي يعتبرها العرب منذ اللحظة الأولى التي نشأت فيها، قضيتهم المصيرية، قد تسبق أو تأتي بعد قضاياهم المصيرية المحلية، ولكنها لا تقل أهمية.
لم يكتف محمد بكري بالمشاركة في الأفلام الروائية الطويلة سواء الفلسطينية أو بعض الأعمال العالمية مثل "خاص" للمخرج الإيطالي سافيرو كوستانزو في عام 2004، ولكنه شارك أيضاً في العديد من الأفلام القصيرة ومسلسلين هما "عرب لندن" في 2008، والأميركي Homeland في عام 2020.
المتشائل
مع ذلك يظل الإنجاز الإبداعي الأكبر لمحمد بكري هو المسرح، الذي بدأ فيه حياته وتألق في أداء شخصية سعيد أبي النحس المتشائل، المقتبسة عن رائعة إميل حبيبي، "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، والتي ظل يمثلها لأكثر من 30 عاماً.
تُوج محمد بكري خلال مسيرته الطويلة بعشرات الجوائز الكبرى من مهرجانات عربية ودولية، معظمها كممثل وبعضها كمخرج، وهو ما يؤكد حجم الموهبة الفنية الطاغية التي كان بتمتع بها، وقد كان بإمكانه أن يستغل هذه الموهبة ليشارك في أعمال أميركية وأوروبية "عادية" ويحظى بالجاه والمال، لكنه ظل مخلصاً لأصوله الفلسطينية، وكرس موهبته وحياته من أجل رفع الصوت الفلسطيني عالياً في سماء الفن.
ومن يشاهد هذه الأعمال، خاصة التي قدمها خلال الفترة الأخيرة من حياته، يدرك كم تماهى مع الشخصيات التي يلعبها، وكأنها حياته، وكم تماهت هذه الشخصيات معه وأعطته من روحها.
محمد بكري لم يكن مجرد ممثل فلسطيني.. لكنه أصبح تجسيداً فنياً وحياتياً للشخصية الفلسطينية، وقد زرع بكري حب الفن والإيمان بأهميته ودوره، ليس فقط في أولاده صالح وآدم وزياد، ولكن في عشرات ومئات السينمائيين الفلسطينيين الشبان.
*ناقد فني











