عاد "مهرجان الفيلم العربي القصير" إلى الحياة مجدداً بعد توقف دام سنتين ونصف السنة ليعقد دورته الـ15 بالمركز الثقافي الفرنسي في بيروت، مكرّماً ذكرى عراب السينما اللبنانية وصديق المهرجان الراحل حديثاً المخرج برهان علوية، من خلال عرض فيلمه "رسالة من زمن الحرب" الذي صوره عام 1985 ولم يعرض في لبنان من قبل لأسباب سياسية.
ويتناول الفيلم التسجيلي الروائي الحرب الأهلية من زاوية إنسانية، في مواجهة القدر والموت والدمار، ليوثق ذاكرة الحرب الجماعية والاقتتال الطائفي، يحمل صوت الناس وهمومهم ويصوّر فضاءات ومجتمعاً دمّرته الحرب والأحزاب مرات عدة.
جان شمعون وسينما الواقع
المهرجان الذي قدّم الثلاثاء، تحية أيضاً لذكرى المخرج اللبناني الراحل جان شمعون عبر عرض فيلمه القصير "إذن" الصادر في 1974 في باريس، يحمل في جعبته 35 فيلماً متنوّعة المدارس والقضايا، من لبنان وسوريا وتونس والمغرب وفلسطين ومصر وسوريا والعراق"، بحسب ما أعلن مدير المهرجان نجا الأشقر لـ "الشرق".
وقالت المخرجة الفلسطينية مي المصري لـ "الشرق"، إن زوجها الراحل جان شمعون "كان سيكون سعيداً بعرض أول فيلم صنعه في حياته، وكان فيلم تخرّجه من كلية السينما في جامعة باريس الثانية"، مشيرة إلى أن "الفيلم كان ضائعاً ووجدته بالصدفة في أحد مخازن البيت ولم يعرض للجمهور العريض من قبل".
ولفتت إلى أن الفيلم كان بحالة سيئة واستطاع "نادي لكل الناس" ترميم صورته وصوته وترجمته لأنه ناطق بالفرنسية.
أما الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية غيوم دوشوميان فقال لـ"الشرق"، إن فيلم "إذن" أدهشه لكونه "يطرح قضايا لا تزال مطروحة اليوم حول مشكلات الطلاب اللبنانيين في فرنسا في تلك الحقبة، من وجهة نظر نقدية للمجتمع الفرنسي والعنصرية تجاه الطلاب وقضايا الجندر بين الطالبات والطلاب اللبنانيين. إضافة الى تعرية نظام التعليم العالي في لبنان والشروط التي تجعل هؤلاء يهجرون بلادهم طلباً للعلم".
وأضاف دوشوميان أن هذا النوع من الأفلام "يذكرني بموجة الأفلام الفرنسية الحقيقية والمباشرة التي قادها المخرجون جان روش وإدغار موران حول المجتمع الفرنسي، تسمي الأشياء بأسمائها وفيها روح نقدية عالية".
واعتبر أن مهرجان الأفلام القصيرة هو "مساحة مهمة وحرة للحوار ومناقشة مثل هذه القضايا الاجتماعية التي تؤرق المجتمعات، مثل الحرب التي تحدث عنها برهان علوية في مشاهد قاسية ومؤثرة والأزمة الاقتصادية اللبنانية".
35 فيلماً من العالم العربي
واعتبر مدير مهرجان الفيلم العربي القصير، أن المهرجان "بات اليوم منصة مهمة لكثير من المخرجين الشباب في العالم العربي الذين يتدافعون للمشاركة فيه، خصوصاً أن لا سقف للحريات فيه، إذ سيعرض أفلاماً جريئة ومتنوعة تحمل هموماً سياسية واجتماعية وفلسفية وتغييرية".
وأضاف أن المهرجات الذي "عرّف الجمهور العربي على مخرجين أصبحوا اليوم مشهورين مثل أمين درة والفلسطينين مهدي فليلفل وأيمن ناجي وسليم مراد، سيعمل على مواكبة الشباب".
ولفت إلى أن الأفلام التي تفوز في المهرجان تسافر بعدها إلى مهرجانات شريكة، مثل مهرجان الفيلم العربي في برلين، ومهرجان السينما العربية الذي ينظمه معهد العالم العربي في باريس، إضافة الى مهرجانات قرطاج وإكليبيا في تونس، والإسماعيلية والإسكندرية و"سينماتيك" في مصر، ومهرجان الفيلم الفلسطيني في رام الله.
صدى الواقع وهواجس الشباب
وتلقى "مهرجان الأفلام القصيرة هذا العام" طلبات لـ 250 فيلماً قصيراً للمشاركة في المسابقات، لكن تم اختيار 35 فيلماً بين الروائي والتجريبي والتحريك والوثائقي، للمنافسة النهائية على جائزة أفضل فيلم وثائقي قصير عربي، وأفضل فيلم روائي قصير عربي، وجائزة الجمهور، وجائزة الطلاب في معاهد السينما في لبنان.
وأشار مدير المهرجان نجا الأشقر الى أن "الأفلام المتنافسة تحمل هموم الواقع والقلق الذي تسببه الأزمات الصحية العالمية والاقتصادية المحلية وهواجس الشباب وأحلامهم وطموحاتهم وحرية المرأة ومشاركتها في العمل السياسي".
أما لجنة التحكيم فتتألف هذا العام من الممثلة ومصممة الرقص ثريا بغدادي والمخرج بهيج حجيج والمؤلف الموسيقي توفيق فرّوخ والممنتجة باميلا غنيمة، ويترأس اللجنة مدير التصوير حسن نعماني الذي يكرّمه المهرجان في الحفلة الختامية.
وعمل نعماني خلال نصف قرن مع مخرجين أوروبيين وأميركيين على أفلام وثقت وقائع الحرب الأهلية اللبنانية، إضافة الى مسلسلات وبرامج أنتجها تلفزيون لبنان، كما صوّر الكثير من الأفلام الروائية والوثائقية لرواد السينما اللبنانية مثل جوسلين صعب ورندة الشهال ومارون بغدادي برهان علوية وجان شمعون وغيرهم.
مواجهة التحديات
وقال الأشقر إن المهرجان و"نادي لكل الناس" الذي أخذ على عاتقه مبادرة الحفاظ على ذاكرة السينما اللبنانية والبحث عن أفلام قديمة مفقودة أو ضائعة وترميمها ورقمنتها لأهم المخرجين اللبنانيين لتكون بمتناول الجمهور العربي وتشارك في مهرجانات كبرى، "تأثر كثيراً بالأزمة الاقتصادية والسياسية والصحية التي تواجهها البلاد منذ بداية 2019".
وأضاف: "قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية، فقد المهرجان مكانه الأساسي الذي تقام فيه فعالياته منذ 2003 وهو صالة سينما ميتروبوليس التي أقفلت بسبب عدم الدعم والتمويل اللازمين، فقررنا تأجيل المهرجان، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية وحجزت أموال النادي والأفراد والمؤسسات التي تدعمه في المصارف".
أما ما زاد الطين بلّة، "فهو انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر غالبية صالات السينما والمسارح والفضاءات التي من الممكن العرض فيها، هذا عدا عن تأثر مكتبنا الذي كان شبه مدمّر".
ويشير الأشقر الى أنه لولا المنحة المقدمة من مؤسستي "آفاق" و"المورد الثقافي"، "لما كان بمقدور النادي ترميم المكتب ولا حتى إقامة هذا المهرجان الذي ننظمه اليوم بأقل تكاليف ممكنة".
ذاكرة السينما اللبنانية
ويعقد على هامش المهرجان المستمر حتى العاشر من ديسمبر الجاري، ورشة عمل مع المخرجة موريال أبو الروس حول صناعة الفيلم القصير وحول بيروت ودور المرأة، إضافة الى تنظيم ندوة عن "ذاكرة السينما في لبنان" وعرض فيلمين للمخرج هادي زكاك حول الموضوع نفسه وتوقيع كتابه "سيلما طرابلس" الذي يوثق لتاريخ صالات السينما في عاصمة شمال البلاد.
كما يوقع الموسيقي توفيق فروخ ألبومين موسيقيين، واحد منهما يجمع مقطوعاته التي ألفها لأفلام لبنانية وعربية لمخرجين كبار مثل محمد ملص وجان كلود قدسي وميشال كمون وغسان سلهب وديما الجندي وغيرهم.
وهناك أفلام خارج المسابقات الرسمية، تعرض للمرة الأولى في المهرجان مثل "إنتفاضة 17 تشرين" للمخرج فيليب عرقتنجي، و"إلى حيث" لباميلا نصور.
ويختتم المهرجان في العاشر من ديسمبر الجاري، مع عرض الفيلم الوثائقي "تسعون" (1978) للمخرج الراحل مارون بغدادي، وهو عبارة عن حوار مطوّل مع الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة عن حياته وأفكاره وشؤون السياسة والبيئة والمرأة.