من خلال مشاهدة عدد كبير من الأفلام السعودية القصيرة التي عرضت في إطار الدورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ( من 6 إلى 15 ديسمبر)، كان أبرز ما لفت انتباهي هو الاختلاف الواضح بين الأفلام التي يصنعها شباب رجال، وتلك التي تصنعها الشابات.
ربما تكون مصادفة، ولكن الشواهد الأخرى (لأفلام سعودية أخرى عرضت في مهرجان القاهرة والجونة وعلى منصتي "نتفليكس" و"شاهد VIP") تشير إلى أن الأمر ليس مجرد مصادفة.
في معظم الأفلام التي تصنعها الفتيات، كمؤلفات ومخرجات، ومنها على سبيل المثال فيلمي "بلوغ" و"قوارير" الذي يتكون كل منهما من 5 قصص، وكذلك فيلم "نور شمس" للمخرجة فايزة أمبا الذي فاز بجائزة لبطلته في مهرجان القاهرة، وفيلم "جوي" للمخرجة نفسها، و"تليفون خربان" للمخرجة خولة الحلواني، وغيرها، يظهر اهتمام المخرجات والمؤلفات النساء بقضايا الواقع الاجتماعية وقضايا المرأة بشكل خاص.
وعلى العكس من ذلك فإن معظم أفلام المخرجين والمؤلفين الرجال تجنح إلى الفانتازيا، خاصة الرعب، والسيكودراما، والظواهر الخارقة للطبيعة.
الحياة اليومية صالحة لإثارة الدهشة
يدور "بلوغ" حول 5 قصص لفتيات معظمهن في سن البلوغ أو المراهقة، ويسرد الفيلم قصصاً "واقعية" ترصد اليومي والعادي في حياتهن، وكذلك تدور قصص فيلم "قوارير" الخمس حول تجارب صانعات هذه الأفلام أو نساء أخريات عاديات، تعتبر حياتهن نفسها موضوعات صالحة للأفلام، ربما على عكس صناع الأفلام الرجال الذين لا يشعرون أن حياتهم اليومية يمكن أن تصنع فيلماً.
وتتناول خولة الحلواني في فيلمها "تليفون خربان" (سيناريو ليلى بالقاسم) تأثير الهاتف الجوال في حياة 5 شخصيات يجمع الهاتف بينهن ويفرقهن في حكايات يومية متداخلة.
"شمس نور" و"جوي" لفايزة أمبا اثنان من أنضج وأفضل الأفلام السعودية القصيرة، يدور الأول حول أم وحيدة ترعى ابنها الوحيد الذي يعمل حارس أمن ويحلم بأن يصبح نجم راب ويهاجر للخارج، ويرسم الفيلم علاقة شد وجذب عميقة وصادقة بينهما.
أما "جوي" فهو عمل وثائقي في 35 دقيقة عن دخول السينما إلى السعودية، وبالتحديد في أحد الأحياء القديمة بجدة وتأثير ذلك على المواطنين وخاصة الفتيات.
يحمل فيلم "أم السعف والليف" للمخرجة هلا الحيد فكرة "خيالية" ولكن مبنية على الواقع أيضاً، يدور الفيلم حول صديقتين تذهبان للبحث عن كلبهما المفقود، فتطاردهما "أم السعف والليف" (أمنا الغولة، ذلك الكائن الخرافي الذي يخيفون به الأطفال عادة) وهو فيلم من نوع الرسوم المتحركة، حيث الخيال ممكن ومطلوب، والخيال هنا أيضاً مرتبط بكائن "واقعي" في طفولة الكثيرين خاصة الفتيات.
الاستثناء في هذه المجموعة قد يكون فيلم "مسكون" وهو إخراج مشترك بين فتاة (لينا ملائكة) وشاب (ديفيد دارغ) وكتابة مشتركة أيضاً، وهو يدور حول عالمة آثار أجنبية مقيمة في جدة، شقراء وجميلة ومرحة تلفت الانتباه أينما تواجدت، ذات يوم تفتح صندوقاً قديماً لا ينبغي فتحه قبل القراءة عليه من قبل شيخ متخصص، ويبدو أن اللعنات والعفاريت كانت تسكن الصندوق، إذ تطارد الفتاة حفنة من الكوابيس والرؤى المرعبة، وهي صورة استشراقية نمطية نجدها في الكثير من الأعمال الأجنبية التي تدور عن الحضارات القديمة، وغالباً ما تربط هذه القصص بالمرأة الأجنبية المثيرة التي تتواجد وسط مجتمع ذكوري.
أزمة وجودية رجولية
من بين 17 فيلماً عرضت ضمن مسابقة الأفلام السعودية القصيرة بمهرجان البحر الأحمر، تطالعنا الأمثلة التالية لأفلام كتبها وصنعها شباب من الرجال:
يدور فيلم "واحد طش" إخراج وتأليف محمد هلال حول عفريت يطارد فتاة ويحاول أصحابها البحث عنها، ويعتمد الفيلم على العرائس والإضاءة والجو المشحون بالتوتر والرعب للتعبير عن العالم الآخر، المخفي. ويدور فيلم "هلس" ( أي هلوسة) إخراج وتأليف محمد سلامة حول عامل توصيل يعاني من أرق مزمن يتسبب له في الهلوسة ورؤية أشباح مخيفة، وعلق المخرج في النقاش الذي دار بعد عرض الفيلم أنه مر شخصياً بفترة مشابهة تخيل أثناءها أنه رأى ملاك الموت شخصياً.
ينتمي فيلم "أرض القبول" إخراج وتأليف منصور أسد لنوع الخيال العلمي، وتدور أحداثه عام 2096 حيث انتهت الحروب التي دمرت الأرض، ولا يجد المقيمون الناجون شيئاً يتصارعون عليه سوى لون الملابس، وينقسمون لفريقين أحدهما لمشجعي الملابس الزرقاء والثاني لمشجعي الملابس الصفراء يقتل كل منهما الآخر بوحشية، لكن خادمة وأم بسيطة هي فقط من يخرج على عصبية وتعصب هؤلاء الرجال.
ويدور فيلم "لاهث" إخراج حسن سعيد حول شاب يتعرف على فتاة عبر الإنترنت ويسافر للقاءها فيكتشف أنه لا وجود لها، ويختلط لديه الواقع بالواقع الافتراضي.
أما فيلم "يوم فقدت نفسي" لرامي الزاير فيدور حول شاب مكتئب يعاني من أزمة "ربع العمر" (!!) يلتقي مسناً في مصعد يتعطل، ويتبادل الاثنان حديثاً يدفع الشاب إلى إعادة النظر في حياته.
من أين ياتي الرعب؟
الفيلم الوحيد الذي لا يندرج تحت النوع الخيالي هو "الطائر الصغير" للمخرج خالد فهد، الذي يتناول موضوعاً اجتماعياً خطيراً وحساساً، وهو تعرض الأطفال للتحرش.
يتناول الفيلم قصة صبي حالم ومسالم يدعى مالك يتعرض ذات يوم، أثناء لعبه مع صديق في منطقة مهجورة، إلى الاعتداء من قبل شاب مجهول، ويتسبب الحادث في تدمير حياة مالك، قبل أن نقفز في الزمن لنراه شاباً مدمناً بائساً يقوم بالاعتداء على طفل، يتبين أنه مالك نفسه، ليؤكد الفيلم فكرته التي يذكرها كتابة في العناوين الأخيرة، وهي أن 75% من المعتدين على الأطفال هم من الذين تم الاعتداء عليهم في طفولتهم.
يناقش الفيلم قضايا أخرى مثل التنمر وإهمال الوالدين للأبناء وإساءة معاملتهم وتجاهل المدرسة والمؤسسات لهذا النوع من المشاكل.
الفانتازيا والرعب قد يكونا هروباً من الواقع، ولكنهما أيضاً قد يكونان تعبيراً عن الواقع بشكل آخر.
*ناقد فني مصري
اقرأ أيضاً: