"هذا الدور استغرق 10 سنوات لكي أعثر على الممثل المناسب كما أتصوره"، هكذا جاءت تصريحات المخرج دارين أرنوفكسي -صاحب "Requiem for a Dream" و"Black Swan"- عن رحلته مع تسكين شخصية "تشارلي" ذلك (الحوت) البشري المريض بالعزلة الروحية في فيلم "The Whale".
ثم ذات يوم وبينما يُشاهد فيلماً برازيلياً منخفض التكلفة، "Journey to the Center of the Earth"، إنتاج عام 2006، شعر أنه أخيراً عثر على الممثل الذي يمكنه ارتداء بيت الدهون الثقيل ويصرخ صرخة الحوت الأخيرة قبل أن يطير في خفة إلى السماء متحرراً من أسر القفص اللحمي المترهل.
ربما كانت عينا براندون فريرز هما ما جذبا أرنوفسكي المولع بالممثلين أصحاب العيون الناطقة، وربما كانت بحة صوته التي تُشعرنا بأنه صعد من البحر للتو بعدما ابتلع بعض الماء المالح، وربما وجهه الطفولي الخليط ما بين أعراق كثيرة -هو من أصول أيرلندية، اسكتلندية، ألمانية، تشيكية، وكندية فرنسية- والذي يجعل من الصعب أن تُصدر حكماً على ابتسامته التي تبوح بانبهار طازج كأنه اكتشف العالم للتو.
رحلة أخيرة
في النهاية وجد أرنوفكسي ممثلاً يُمكن لكل تلك العناصر مجتمعة أن يُشعرنا كم تتوق روح الشخصية الخفيفة أن تصعد متحررة من أثقالها الدنيوية في رحلة أخيرة ووحيدة، من داخل مكياج لجسد صناعي يبلغ وزنه 136 كيلوجرام، إذ فاز الفيلم أيضاً بجائزة أوسكار أفضل مكياج وتصفيف شعر.
يقول فريرز في تصريحات لمجلة "فارايتي"، إبان العرض العالمي الأول لفيلم "The Whale في الدورة الأخيرة من مهرجان فينسيا السينمائي: "لقد طورت عضلات لم أكن أعرف أنني أملكها، حتى أنني كنت أشعر بالدوار في نهاية اليوم عندما نُزيل جميع الزوائد، كان الأمر أشبه بالخروج إلى الرصيف من على متن قارب في البندقية، هذا الشعور المتموّج منحني التقدير لأولئك الذين تتشابه أجسادهم مع جسد تشارلي، يجب أن تكون شخصاً قوياً بشكلٍ لا يُصدق، عقلياً وجسدياً، لتعيش في ذلك الكائن المفرط في مادته".
قبل بدء التصوير بشهورٍ عديدة، استعد فريرز مع مدربة رقص بهدف إتقان حركة شخص ضخم بهذا الوزن الثقيل، لكي يضبط إيقاعه الجسدي، ويُدرب ذاكرته الحركية على زمن الفعل الجسماني ومستوى نشاطه، فكان يحتاج أن يُربي علاقة مع الأطراف الصناعية الخاصة بترهل "تشارلي" الرهيب، خاصة أنه كان يمضي 4 ساعات يومياً في تركيبها، وبالتالي كان من المهم بالنسبة له أن يُوهم عقله أن تلك هي أطرافه بالفعل، وعليه الشعور بثقلها المادي في رأسه قبل عضلاته.
من بين المرشحين الـ5 لأوسكار أفضل ممثل هذا العام، كان صعود فريزر إلى خشبة الدولبي متوقعاً، رغم أن تاريخه الطويل لا يحمل صعوداً مماثلاً!، خاصة مع الفئة التي طالما صنف فيها نفسه منذ ظهوره في بداية التسعينيات، ممثل مرح، خفيف، رياضي، مغامر، شهواني دون ابتذال، وسيم، تربى مثل طرزان "George of the Jungle" عام 1997، وقادر على إعادة المومياوات إلى توابيتها سواء كانت مصرية أو صينية "The Mummy"عام 1999، و"The Mummy Returns" عام 2001، و"Tomb of the Dragon Emperor"عام 2008، وتقبيل البطلة الجميلة في كل نهاية.
كان الكل يراهن هذا العام أن يحمل تمثال الجائزة الـ95 بصمة كولين فيريل، عن دوره الآسر في فيلم "The Banshees of Inisherin"، أو أن تتوج مسيرة ممثل مخضرم مثل الإنجليزي بيل ناي عن أداء شخصية "مستر ويليامز" في الكنز المخفي "living"، وهو بالمناسبة فيلم رائع يستحق أكثر من مجرد ترشيح لفئة أفضل ممثل، أو أن يتم دفع جرعة أدرينالين خارقة في عروق ممثل شاب مثل أوستن باتلر عن تقمصه لشخصية "ألفيس بريسلي" كما حدث مع رامي مالك قبل سنوات قليلة.
أزمة الصوابية
لكن فريزر انتزعها عن استحقاق، ورغم كل ما يمكن أن يُقال عن هيمنة الصوابية السياسية على الجوائز، خاصة مع حصول فيلم خلافي مثل "Everything Everywhere All at Once" على 7 جوائز من أصل 11 جائزة كان مرشحاً لها، وبالتالي يمكن بسهولة أن يبدو منح جائزة أفضل تمثيل لفيلم "The Whale" هو من باب أن الشخصية التي يُقدمها هي لرجل "مثلي"، يعاني من حالة ضياع روحي بعدما انتحر رفيقه فيحاول التواصل مع ابنته المراهقة في أسبوعه الأخير على الأرض.
هنا تتجلى أزمة "الصوابية" الحقيقية، حيث إنها لا تؤثر بشكلٍ مباشر على ذائقة لجان التحكيم في المهرجانات والجوائز الدولية خلال السنوات الأخيرة، ولكن لأنها تلوث وبشكل فج جوائز مستحقة لممثلين وأفلام لمجرد أن ما يُقدموه يتماشى مع أجندتها!، حتى ولو لم يكن مقصوداً أو مستهدفاً.
وقد أشرنا عالية إلى أن دارين أرنوفسكي وهو من المخرجين الذي يصعب ربط منتجهم السينمائي بالصوابية، استغرق 10 سنوات لكي يقوم بتسكين دور "تشارلي" على مقاس براندون فريزر، أي قبل حلول ظلام الصوابية على أفق الإنتاج السينمائي في العالم.
والمتابع لمسيرة فريزر -الذي كان فتى هوليودي بامتياز طوال عقدي التسعينيات وبداية الألفينيات- يجد أنه على الرغم من جرعات المرح والأكشن والإثارة الملونة في أفلامه الخفيفة أو حتى بعض تجاربه الجادة، مثل "Gods and Monsters" إلا أنه من المنصف أن ندرك أنه جوكر حقيقي، ولديه من صفات القدرة على التشكل وصب ذاته في قوالب متعددة المقاسات والتفاصيل والأحجام -أدائياً وحركياً وصوتياً- ما يمكن أن يبدو مؤهلاً، لأن يقدم دوراً مثل "تشارلي" وهو في الـ55 من عمره.
خاصة لو مددنا خطاً وهمياً مستقيماً بين حالة الدهشة الطفولية المتجددة لتنويعات شخصية "إيلوت" التي قدمها فريزر في فيلمه الشهير "Bedazzled" وما بين رهافة "الحوت تشارلي" ومسيرته الأخيرة تجاه ابنته عقب مواجهتهم النهائية قبل أن يدرك أن ما كان يشده إلى الأرض لم يكن جسده الثقيل بل حزنه الجاثم على روحه المتعبة.
* ناقد فني
اقرأ أيضاً: