Oppenheimer.. الوحش الذي يسكننا

الملصق الدعائي لفيلم Oppenheimer - facebook/OppenheimerMovie
الملصق الدعائي لفيلم Oppenheimer - facebook/OppenheimerMovie
القاهرة -عصام زكريا*

يبدأ فيلم Oppenheimer، أحدث أعمال المخرج كريستوفر نولان، بإشارة إلى أسطورة "برومثيوس"، ذلك البطل اليوناني الذي سرق سر النار من الآلهة، فعاقبوه بتقييده بالأغلال وتعذيبه إلى الأبد.

حسنا.. ما العلاقة بين "برومثيوس" وأوبنهايمر، الذي يحمل الفيلم اسمه ويدور عنه بالكامل؟

مبدئياً الفيلم مقتبس عن كتاب يحمل عنوان "برومثيوس الأميركي" (تأليف مارتن شيرود وكاي بيرد)، والذي يوثق سيرة حياة عالم الفيزياء جيري روبرت أوبنهايمر، الذي أشرف على "مشروع مانهاتن" الخاص باختراع القنبلة الذرية.

أوبنهايمر مثل "برومثيوس"، عوقب على ما فعله، ولكن ليس بالطريقة التي تعرض لها البطل الإغريقي بالطبع، رغم أن ما فعله كان مؤذياً.

"برومثيوس" أعطى سر النار للبشر، فتغير مصيرهم إلى الأفضل، ويمكن القول إن استخدام النار هو ما أعطى الجنس البشري تميزه وتطوره وحضارته، أما أوبنهايمر فأعطى البشر سر الدمار، والسلاح الذي يمكنهم من القضاء على الحضارة وأنفسهم والكوكب كله.

يحيلنا فيلم Oppenheimer إلى أسطورة أخرى أحدث، ارتبطت بعصر الثورة الصناعية واكتشاف شيء آخر لا يقل خطورة عن النار، وهو الكهرباء، وهي حكاية العالم فرانكشتين الذي استخدم سر الكهرباء ليخلق إنساناً من بقايا الموتى، ولكن النتاج كان وحشاً مرعباً قتل صاحبه..

برومثيوس أم فرانكنشتين؟

يبدو فيلم Oppenheimer أقرب إلى فرانكشتين منه إلى "برومثيوس". 

وأوبنهايمر نفسه شبه ما فعله بأسطورة ثالثة، هندية، في واحد من أشهر المقاطع المصورة له، يشير روبرت أوبنهايمر إلى كتاب الهندوس المقدس "بهاجافاد جيتا"، حيث يقوم آلة الدمار فيشنو بإقناع الإله الشاب كريشنا بعدالة الحرب التي يوشك على دخولها ضد أبناء عمومته، ويقتبس أوبنهايمر على لسان فشنو العبارة التي أصبحت لصيقة بأبي القنبلة الذرية:

"أنا الآن أصبحت الموت، ومدمر العوالم". ويضيف أوبنهايمر في المقطع المشار إليه: "أعتقد أننا جميعاً، بدرجة أو أخرى، نظن أننا أصبحنا كذلك".

لا يمكن الحديث عن فيلم Oppenheimer بدون الحديث عن الرجل نفسه، وعصره، وآثار ما فعله، من سباق مجنون على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، المشهرة مثل سيف مسلول فوق رقبة الكوكب.

مع ذلك، فنحن نتحدث عن فيلم، وهو ليس أي فيلم، ورغم أن القصة هي بالتأكيد أهم عنصر في فيلم Oppenheimer، وربما تكون أكثر أهمية من الفيلم، ومن السينما نفسها، لكن ما يهمنا هنا هو الكيفية التي تظهر بها هذه القصة على الشاشة، والأهم: هل تساهم في تغيير، أو تطوير، طريقة تفكيرنا في القصة التاريخية نفسها، وهل تضيف إلينا شيئا أكثر عمقاً فكرياً وإنسانياً يساعدنا على مواجهة شبح الدمار المخيم على حضارتنا؟

ما الذي يدفع سينمائياً مثل نولان، اشتهر بالخيال والتجريب والإبهار السردي والبصري، إلى معالجة قصة حياة رجل يعرفها الجميع (أو بمعنى أصح متاحة لمن يرغب في معرفتها من خلال كتب ومقالات وأفلام وثائقية بالعشرات في المكتبات وعلى الإنترنت)؟ 

لا يهتم كريستوفر نولان بالسرد القصصي في حد ذاته، ورغم أن زمن الفيلم يقترب من 3 ساعات، إلا أن القصة نفسها يصعب فهمها واستيعابها دون الرجوع إلى مصادر أخرى، ويستحسن، لمن لم يشاهد الفيلم بعد، أن يعرف المعلومات الأساسية حول الشخصيات والخلفية التاريخية قبل التوجه إلى دار العرض.

الإبهار أم الشخصية؟

ما الهدف الأساسي إذن من صنع فيلم Oppenheimer؟ 

هل هو الإبهار التقني الذي يبرع فيه كريستوفر نولان عادة، والذي يصل هنا إلى أقصاه بصرياً وسمعياً وسردياً: 3 ساعات من الحيوية والتشويق والتلاعب بالأزمنة والتجربة التي تكاد تكون حسية وبدنية، ما يحتاج إلى آلاف الكلمات لوصفه. وهو إبهار يكمله فريق عمل من ألمع النجوم.

بجانب كيليان ميرفي الذي يؤدي دور أوبنهايمر، هناك بعض الأسماء التي يظهر أغلبها في أدوار قصيرة وشرفية: روبرت داوني جونيور، مات ديمون، إميلي بلانت، فلورانس بيو، كينيث براناه، جاري أولدمان، رامي مالك.. والقائمة تطول.

قد يبدو أن هذه العناصر الهوليوودية التقنية، مثل الشاشة العريضة والتصوير بكاميرا IMAX والصورة الناطقة والصوت الحي والمونتاج السريع اللاهث والموسيقى الموترة والنجوم ودقة توثيق المرحلة التاريخية وإعادة صنع أول تفجير ذري تجريبي، قبل إلقاء القنبلتين بالفعل على هيروشيما وناجازاكي، والأخطر من ذلك كله التركيز على حياة ومحنة الرجل نفسه، خاصة في الثلث الأخير من الفيلم، الذي يتناول ما حدث له بعد نهاية الحرب بسنوات من اتهام بالشيوعية والخيانة وتجريده من امتيازاته، قد يبدو أن هذه العناصر تتعارض مع، أو تشوش على، جوهر وخطورة الحدث التاريخي نفسه، وهو ما يشير إلى أن غرض نولان من كتابة وصنع الفيلم لم يكن الحدث التاريخي في حد ذاته، ولكن شيئاً آخر.

منذ اللحظة الأولى، حتى الأخيرة، يضعنا الفيلم داخل عقل الشخصية، كما تخيلها كريستوفر نولان: عالم موهوب له خصاله الطيبة والسيئة كإنسان: مثقف كبير، صاحب مواقف اجتماعية وسياسية تقدمية، فصيح اللسان، خفيف الظل، زئر نساء، معتد بنفسه ومغرور أحياناً، طموحاً بلا حدود، وجد نفسه مسؤولا عن شيء أكبر من طاقته، وفي رأي البعض، مثل الرئيس ترومان (بأداء جاري أولدمان) أكبر من حجمه.

فعندما يقول أوبنهايمر إنه يشعر أن يديه ملطختان بالدماء يجيبه ترومان ساخراً بما معناه أن صاحب قرار إلقاء القنبلة هو الرئيس، وأن أوبنهايمر لم يكن سوى عالم لو لم يخترعها لاخترعها غيره، أو كما يخبره عالم صديق آخر في بداية الفيلم (بأداء كينيث براناه): "أنت الرجل الذي أعطاهم القدرة على تدمير أنفسهم. والعالم ليس مستعداً".

هل كان أوبنهايمر ضحية، مثل الملايين من الجنود والمواطنين الذين دمرتهم الحرب العالمية الثانية فعلياً أو معنوياً؟ ما الفارق بينه وبين طيار يلقي بالقنابل فوق المدن؟ كلاهما يؤدي الدور المنوط به الذي خلق له، وتسمح مواهبه وإمكانياته بفعله، الفارق فقط هو حجم الدور الذي منح لأوبنهايمر.

ربما يكون المشهد الأكثر ترويعاً في فيلم Oppenheimer هو المشهد الذي يجلس فيه المسؤولون عن الحرب والسياسة ليتخذوا قرار إلقاء القنبلة، بلا مبالاة أو إحساس بعواقب ما يفعلونه وبسرعة مدهشة.

سوف نلقي قنبلتين لا واحدة، لنؤكد لهم أننا نملك المزيد، وأننا على استعداد للاستمرار في إلقاء القنابل، وعندما يفاضلون بين المدن التي سيتم تدميرها، يعارض أحدهم إلقاء القنبلة على مدينة كيوتو، لأنها ذات أهمية أثرية ولأنه قضى شهر العسل بها!

الخصم الرئيسي للبطل في Oppenheimer هو رجل السياسة لويس شتراوس (روبرت داوني في واحد من أعظم أداءاته)، الممول والمشرف على مشروع اختراع القنبلة، والذي يتآمر للإطاحة بأوبنهايمر وتشويه سمعته من أجل مطامعه السياسية.

ويليه في الصورة السلبية المشرف العسكري على المشروع ليزلي جروفز (مات ديمون)، وبقية رجال الجيش الذين يعشقون الحرب لأنها مهنتهم، ولسان حالهم يقول: طالما اخترعناها فلا بد أن نستخدمها!

مثل فيلمه الشهير Memento يروي نولان فيلمه من خلال خطين سرديين أحدهما بالأبيض والأسود. الأول، الملون، يروي حياة أوبنهايمر ومأساته بطريقة ذاتية ترينا العالم والأحداث من خلال عقل وعين الرجل، والثاني، الأسود والأبيض، يروي ما فعله شتراوس على مدار سنوات من التلاعب والتآمر.

مرة أخيرة: ما الهدف الرئيسي من اختيار نولان لهذه القصة وصنع فيلم عنها؟ أعتقد أنه وضعنا داخل قلب التراجيديا الإنسانية، وجعلنا جميعاً، مثل أوبنهايمر، مسؤولين بدرجة أو أخرى، عما يحدث حولنا، مسؤولين عن تدمير، أو إنقاذ، هذا العالم، وهو ما حاول أوبنهايمر أن يفعله: مرة باختراع القنبلة، ومرة بمعارضة استخدامها.

*ناقد فني

اقرأ أيضاً:

تصنيفات