جوائز فينيسيا 2023.. Poor Things يروّض الأسد الذهبي 

الملصق الدعائي لفيلم Poor Things - instagram/poorthingsfilm/
الملصق الدعائي لفيلم Poor Things - instagram/poorthingsfilm/
فينيسيا-رامي عبد الرازق*

منذ 12 عاماً، والمخرج اليوناني يورجوس لانثيموس، صاحب البصمة البصرية الفاتنة في دمويتها، يُنافس بقوة على جائزة الأسد الذهبي لمهرجان فينسيا السينمائي، إذ بدأ بفيلمه Alps (الألب) عام 2011، ثم The Favourite (المفضلة) عام 2018، وفي كلتا الدورتين لا يتمكن من إخضاع الأسد الذهبي العنيد، وإن لم يرحل خال الوفاض؛ حيث حمل جائزتين هامتين في كل مرة، أفضل سيناريو عن Alps، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن The Favourite.

هذا العام، استطاع صاحب The Killing of a Sacred Deer أخيراً أن يعتلي الأسد، لتحمل جائزة مهرجان فينيسيا في دورته الـ80، عنوان Poor Things كأفضل فيلم، وهو ما اعتبره البعض أهم ما قدّم اليوناني الفذ في مشواره الذي توّجه مع بلوغه الـ50، بجائزة المهرجان الأعرق في العالم.

تأتي الحكاية المذهلة والتطور الخيالي لبيلا باكستر (إيما ستون)، وهي امرأة شابة أعيدت إلى الحياة على يد العالم العبقري صاحب الوجه الذي يبدو مجمعاً من جلود آخرين، الدكتور جودوين باكستر (ويليم دافو)، وعلى ما يبدو أنها إعادة بناء لحكاية فرانكنشتاين مع تغير جندري في جنس الوحش، تتوق "بيلا" للتعلم وتبدو متعطشة لإعادة اكتشاف الحياة عبر التجربة، حيث تهرب مع دنكان ويديربيرن (مارك روفالو)، المحامي المنحل وغير المكترث، في مغامرة عاصفة، متحررة من الأحكام المسبقة في عصرها الفيكتوري، لتحيل مغامرتها إلى أسئلة عن معنى قيم الحرية والمساواة وتقبل الآخر.

إيما ستون، هي منتجة الفيلم، وواحدة من بطلات فيلم لانثيموس السابق The Favourite، وهي بطلة الفيلم الذي رقص الأوسكار على إيقاعاته Lala Land عام 2016، إخراج رئيس لجنة تحكيم فينيسيا 80 داميان شازيل، والذي ربما شاهد فيما قدمته "إيما" ما لم يكن يتصور أنها يمكن أن تقدمه، بعدما اعتصرها رقصاً وبكاءً في فيلمهما الأشهر قبل سنوات. 

Priscilla في "بيت الدمية"

لا ندري هل نافست إيما، في التصويت الداخلي للجنة التحكيم، ضد الممثلة الشابة كايلي سبايني، التي غادرت فينيسيا تحمل جائزة أفضل ممثلة عن شخصية "برسيلا" في الفيلم الذي يحمل نفس العنوان؟، بعينان لا تتاجران بالطفولة ولكنهما يندهشان من اتساع العالم وحماقاته غير المفهومة، قدمت كايلي شخصية سيدة جريس لاند المغدورة من الملك العربيد ألفيس بريسلي.

في صياغتها للشخصية، بدت المخرجة صوفيا كوبولا، التي اقتبست نص الفيلم عن مذكرات بريسيلا بريسلي "آلفيس وأنا"، ثمة حضور واضح لسياقات الحالة الأيقونية التي شكلها المسرحي النرويجي هنريك أبسن، في نصه الأشهر "بيت الدمية".

هناك تشابه واضح بين شخصية "برسيلا" كما قدمتها كوبولا، وبين "نورا - دمية أبسن" التي ظلت تسكن بيت زوجها لسنوات، تأكلها الحيرة التي لا تجيب عن أبسط الأسئلة ولا أعقدها، فهل يستحق الحب أن يضحى الإنسان من أجله بسعادته وكرامته وكيانه المادي والروحي؟. 

ترتكز سردية برسيلا، على التواجد المستمر في البيت، حيث البيت الشهير الذي بناه "آلفيس" وسماء جريس لاند، في مسقط رأسه بولاية ممفيس، ثلاث أرباع مشاهد الفيلم تدور في البيت، والكثير منها في غرفة نوم "آلفيس وبرسيلا"، حيث يحتل رأسها كعاشق ويرفض جسدها كرجل يخشى أن يلوث زهرة ولو بنظرته.

وحتى خارج جريس لاند، ثمة دوماً تلك الحجرات المغلقة مسدلة الستار التي تزوره فيها "برسيلا"، لتجد الملك مختبئاً فيها عقب كل إشراقة له على عالم يتشكل من الضوء المبهر وهيستيريا المعجبات وعقود الأفلام وجولات الحفلات التي لا تنتهي.

وكما تغادر "نورا" في نهاية مسرحية آبسن، مغلقة باب البيت ورائها بقوة الفعل المؤجل، والذي لن يعود بيت الدمية بعد أن غادرته، تُفتح بوابات جريس لاند، كأنها أسوار السجن العملاق الذي عاشت فيه مع ملكها المرعب في نعومته، لكي تغادر هي الأخرى، متحررة من آثار عدوانه على روحها الهشة ذات الحضور الطفولي الغض.

بقع في الذاكرة 

في محاولة لتوقع مزاج لجنة التحكيم، يمكن أن نعود إلى إيما ستون في Poor Things ونحاول أن نربط بين شخصيتها التي تنهض من موت الذاكرة عقب انتحارها، وشخصية "سول" التي قدمها الأميركي بيتر سارسجارد، في فيلم المخرج ميشيل فرانكو  Memory (ذاكرة)، وحاز عنه الممثل أكبر جائزة مرموقة في حياته المهنية (أفضل ممثل في فينيسيا 80) بعد عدة ترشيحات للأوسكار.

"سول" هو رجل يعاني من حالة انقطاعات للذاكرة قصيرة المدى، مرض أشبه بالزهايمر، لكنه أقل وطأة وأشد إيلاماً على مستوى الحياة اليومية، فهو لا يستطيع مثلاً أن يشاهد فيلماً لأن ذاكرته لا تحتفظ بالمعلومات التي تجعله يتابع تسلسل الحكاية.

وفي انجذاب روحي بحت وغير مبرر، تجد سيلفيا (جيسيكا تشاستين) أن ثمة رجل يتبعها حتى منزلها المتواضع المحصن بالعديد من الأقفال، لأنها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، إثر تعرضها للاغتصاب وهي طفلة.

من هنا، تبدأ الحكاية الغريبة، رجل بذاكرة مبقعة، وامرأة تحمل ذاكرتها طبقات من الألم والخوف والقهر والوحشة، في البداية تتهمه أنه كان واحداً ممن اغتصبوها وهي صغيرة، لمجرد أنهما ارتادا نفس المدرسة لكنها تكتشف أن اضطرابها يجعلها تُسقط متاعها الدموي فوق رأس كل من يتقرب منها، ولما تحدث بينهما شرارة التعاطف والاحتياج، يبدأ كل منهما في مليء الفراغ الذي يعانيه بحضور الآخر، فتصبح هي ذاكرته، ويصبح هو بديل كل الرجال الذين دهسوا وردة طفولتها قبل أن ترى الشمس.

توظيف متقن من فرانكو، لإمكانيات الصمت والحيرة والخفوت في أداءات سارسجارد، فهم حقيقي لطبيعة الشخصية ونظرات عيون توحي بالفعل أن النسيان هو جزء من نظرته إلى العالم، ذقن كثيف كأنما لراهب ولغة جسد تعاني من حيرة الاتجاهات، حيث لا طريق معلوم يؤدي إلى مكان أثير، سوى الطريق إلى منزل سيلفيا المضطربة.

جاروني والمجاملة الإيطالية

من المفارقات التي يمكن أن يلمس خشونتها كل من تابع أفلام مسابقة فينيسيا الـ80، هي حصول الإيطالي ماثيو جاروني على جائزة الأسد الفضي، لأفضل إخراج، عن فيلمه The Captain (الكابتن)، فيما حصلت البولندية أجنيسكا، على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن تحفتها The Green Border (الحدود الخضراء).

كلا الفيلمين يتحدثان عن قضية اللاجئين، ولكن حجم ثقل وكثافة وقوة اللغة السينمائية تميل كفتها بالطبع لصالح البولندية العجوز، التي صنعت أيقونة بالأبيض والأسود، سوف تعيش طويلاً ويُعاد قراءتها كلما تعتقت تفاصيلها.

أما The Captain الذي حصل أيضاً على جائزة "مارشيللو ماستورياني" لأفضل وجه جديد للسنغالي الشاب سيدو سار، هو فيلم متقن الصنع على مستويات كثيرة، لكنه إتقان بديهي من صاحب ماثيو جاروني Dogman (الرجل الكلب) فجاروني محنرف في غزل الحكاية إيقاعياً، ولديه من الانضباط والدقة ما يجعل قبضته الإبداعية محكمة ونافذة الفعل، لكن نمطية القصة عن الهجرة الشرعية خذلت قوة التجربة هذه المرة، ولم تنجح في إنقاذ الفيلم من كونه للاستهلاك مرة واحدة، فلا طبقات بصرية أو درامية تحتاج لإعادة قراءة ولا وجدانيات متمردة على السياق المتكرر لأفلام الهجرات غير الشرعية، حتى فيما يتعلق بالوقوع في فخ الإدلاء أو البيع لصالح تجار الرقيق المسيطرين على طرق التهريب.

* ناقد فني

اقرأ أيضاً:

تصنيفات