تواصل "الشرق" نشر مذكرات الفنانة الراحلة نادية لطفي (1937 - 2020)، والتي اختارت الكاتب الصحافي أيمن الحكيم، لكتابتها قبل نحو 18 سنة.
وعلى امتداد هذه السنوات الطويلة تواصلت بينهما الحوارات وتراكمت وتحولت العلاقة إلى صداقة إنسانية، فكانت تعتبره واحداً من أفراد أسرتها، وهو الصحافي الوحيد الذي سمحت له بمرافقتها في غرفة العناية المركزة عندما دخلتها في أزمتها الصحية الأولى قبل 5 سنوات.
وبحكم تلك العلاقة، تجمعت لدى الحكيم عشرات الساعات من التسجيلات التي تحدثت فيها الفنانة الراحلة عن تاريخها، وهو ما يعد شهادة على عصر كان زاخراً بالأحداث والنجوم.
المذكرات التي تنشرها "الشرق" في حلقات متتالية حصرياً، تأتي مدعمة بتسجيلات صوتية وصور من أرشيف الفنانة الخاص، بعضها يُنشر للمرة الأولى.
ويكتب الحكيم تفاصيل رحلة نادية لطفي كما روتها على لسانها، وفي ما يلي نص الحلقة السابعة التي تتحدث فيها عن علاقتها بالمخرج السينمائي حسن الإمام، ورأيها في أفلامه، وكواليس التحضير لفيلم "قصر الشوق"، وتكشف سبب رفضها المشاركة في الفيلم في البداية، وتحكي دور المخرج حسين كمال في العمل.
سينما حسن الإمام
رغم أنني ضد الألقاب الفنية والإفراط فيها، وأعتبر أن الكثير منها نتاج مجاملات صحافية ودعائية غير مستحقة، إلا أنني أمام هذا المخرج يمكنني أن أنسى اعتراضاتي وملاحظاتي، وأمنحه فوراً لقب "سلطان المخرجين"، وهو لقب يستحقه حسن الإمام فعلاً وحقاً.
وكان من حسن حظي أنني كنت بطلة لثلاثة من أفلام حسن الإمام، أعتبر أنها من أجمل ما قدمت على شاشة السينما خلال مشواري، وأفتخر أن ملصقاً واحداً جمع اسمي واسمه في تلك الأفلام: "الخطايا" في عام 1962، و"قصر الشوق" 1967، و"بديعة مصابني" 1975.
ويظل حسن الإمام هو "سلطان" أفلام الميلودراما في السينما المصرية، فهو في هذا اللون صاحب مدرسة متفردة وبصمة متميزة، بل أصبح هذا اللون مرتبطاً باسمه، فلا تُذكر أفلام الميلودراما إلا ومعها اسم حسن الإمام.
وفي ظني أنّ هذا الرجل لم ينصفه تاريخ السينما بعد، ولم ينل ما يستحقه، لكني على يقين أن هذا الإنصاف سيأتيه ولو بعد حين.
ولا أعرف سبباً مقنعاً لهجوم النقاد الدائم على أفلامه والتقليل من شأنها رغم نجاحها الجماهيري الهائل، وعلى الرغم من أن الميلودراما بكل ما تحمله من مبالغات وإثارة وفواجع ومواقف صارخة، إلا أنها لون يعرفه العالم ولم يخترعه حسن الإمام.
مسلسل أميركي
أذكر أنه في سنوات الثمانينيات ظهر مسلسل أميركي "كسّر الدنيا" بلغة السينما، كان يحكي عن فتاة جميلة تتعرض للخطف وتجد نفسها في بيت للدعارة، تلتقي فيه فجأة بأمها التي اختفت منذ سنوات، وهكذا تسير الأحداث بشكل ميلودرامي صارخ طوال الحلقات.
وحقق المسلسل نجاحاً ساحقاً ولم يتهمه أحد بالمبالغة والسطحية والسذاجة والميلودرامية، بل تابعه الجمهور وصفق له هناك.. فلماذا نحجر على ذوق الناس عندنا؟!
عقدة القطارات
وأحسب نفسي من المعجبين بسينما حسن الإمام من قبل أن يجمعنا فيلم "الخطايا" لأول مرة عام 1962، وكنت كمتفرجة مفتونة بأفلامه وأذهب لمشاهدتها في دور العرض، وبعضها كان له تأثير عميق في نفسي، وخاصة فيلمه "اليتيمتان" الذي قامت ببطولته فاتن حمامة -نجمتي المفضلة- وثريا حلمي. وأصابني الفيلم بعقدة نفسية من ركوب القطارات استمرت معي حتى اليوم.
وقبل سنوات قليلة جمعني اتصال بالمنتج الشهير سمير خفاجي، أخبرني في نهايته أنه سيسافر خلال أيام إلى الإسكندرية، وفوجئ بي أصرخ فيه: يا خبر أسود..عاوز تسافر بالقطر ولوحدك؟، وتعجب بشدة من انفعالي وهلعي غير المبرر، ورد بانزعاج: وفيها إيه يا بولا.. بالعكس القطر أمان أكثر من السيارة".
واضطررت لأن أشرح له عقدتي من ركوب القطار بسبب فيلم " اليتيمتان" بعد ما حدث لبطلتيه عندما ركبتا القطار، وضحك سمير خفاجي يومها وسخر مني بشدة، لكني ظللت على خوفي من ركوب القطار ولازمتني عقدته.
وحتى وقت قريب كنت أصدق كل عشاق ركوب القطارات، وأبصم أنه أكثر أماناً وراحة، ولكن من يضمن لي أن مصيري إذا ركبته لن يكون مثل مصير بطلتي "اليتيمتان"؟!.
بين "ريري" و"زوبة"
بعد نحو 5 سنوات من "الخطايا" أول فيلم يجمعني بحسن الإمام، فوجئت باتصال منه يرشحني فيه لبطولة فيلمه "قصر الشوق"، الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ الملحمية الشهيرة، التي بدأت بـ"بين القصرين" وانتهت بـ"السكرية".
وقد تندهش عندما أقول أنني حاولت الهرب من حسن الإمام وبطولة الفيلم، وكانت عندي أسباب وجيهة أو اعتبرتها كذلك، على رأسها أنني قبلها بشهور قمت ببطولة فيلم "السمان والخريف" عن رواية لنجيب محفوظ، وشعرت في لحظة أن "ريري" بطلة "السمان والخريف" قريبة من شخصية "زوبة" بطلة "قصر الشوق" فخفت أن أكرر نفسي، خاصة أن الفيلم الأول الذي عرض في شتاء العام 1967 وشاركني بطولته محمود مرسي، وأخرجه حسام الدين مصطفى، حقق نجاحاً جماهيرياً ونقدياً فاق توقعاتي، فخشيت ألا أصل لهذا النجاح في "قصر الشوق".
وقررت أن أعتذر لحسن الإمام، وفكرت في حجة يقبلها مني، ولم أجد أمامي إلا حجة "بلهاء" ولكنها بدت لي ساعتها عبقرية، فوقتها ظهر مرض جديد اسمه "اللمباجو" وذهبت إلى طبيب صديق تعاطف مع مشكلتي وأعطاني شهادة طبية تفيد إصابتي به. وذهبت لحسن الإمام وقدمت له الشهادة وأنا أتصنع الأسف وقلت له بأسى: "كان على عيني يا أستاذ، لكن اللمباجو سيمنعني من أداء الاستعراضات في الفيلم".
ودخلت عليه "اللعبة" وحمل حسن الإمام شهادتي المرضية وذهب بها إلى مدير مؤسسة السينما حينها الدكتور عبد الرازق حسن، ليخبره باعتذاري لأسباب مرضية ويستأذنه في ترشيح ممثلة بديلة، لكنه فوجئ برد رئيس المؤسسة: "يا نادية البطلة يا مفيش فيلم".
ولم يعد أمام حسن الإمام سوى أن يحاول إقناعي من جديد، وأرسل لي "بوكيه ورد فاخر" وجاء ليزورني، وفي أثناء الكلام سألني بجدية: "هو إيه اللمباجو ده يا نادية؟"، ولم أتمالك نفسي فانفجرت في الضحك وانكشفت اللعبة.
راقصات شارع محمد علي
ولم يعد أمامي إلا الموافقة، وبدأت في التجهيز للدور، وأصبحت "زوبة" هي شغلي الشاغل، وقررت التفرغ للفيلم، واستعنت بكل وسيلة وحيلة لجمع تفاصيل تلك الشخصية الصعبة والمركبة "عالمة" (راقصة) في بدايات القرن العشرين.
وكلفت مصممة أزياء "شاطرة" اسمها أمينة بأن تصمم لي مجموعة فساتين طبق الأصل مما كانت ترتديه العوالم في ذلك الزمن، وذهبت إلى طبيب الأسنان ليركب لي "سِنة ذهب لولي" على طريقة العوالم.
بل وأحضرت "عالمة" خبيرة من شارع محمد علي (أشهر شارع لفرق العوالم في مصر وقتها) لتعطيني دروساً عملية في رقصهن وطريقتهن في الحركة والكلام (كانت هي نفسها التي استعانت بها نجوى فؤاد لاحقاً في تدريبها على بعض الرقصات، كما استعانوا بها لتدريب فرق الفنون الشعبية).
وظلت تتردد عليّا لمدة 3 شهور، كنت خلالها لا أغادر بيتي لكي أستعد للدور، حتى أن "الصاجات" لم تكن تفارق أصابعي ليلاً ونهاراً لكي أعتاد عليها، ويكون استخدامي لها طبيعياً ومن دون افتعال، وكنت أتحمل في سبيلها آلاماً حادة في عضلات يدي من فرط الإرهاق.
وعلى الرغم من كل ذلك، سيطر عليّ شعور لم أدخل في الشخصية بعد، وأن تفاصيل أخرى ما زالت تنقصني، وهنا جاء المخرج القدير حسين كمال الذي كان وقتها من أقرب أصدقائي بعد أن جمعنا فيلم "المستحيل" قبلها بعامين، وأشهد أن دروس حسين كمال وتوجيهاته هي التي مكنتّني من إتقان الدور، والوصول إلى مفاتيح الشخصية وروحها.
وظللت على أعصابي عند عرض الفيلم، إلى أن توالت آراء النقاد، ولم أقتنع بنجاحي في "قصر الشوق" إلا بعد أن سمعت بأذني ناقداً كنت أحترمه وأقدره، وكان من الأسماء اللامعة حينها، وهو الدكتور سعيد عبده، وكان رأيه مهماً بالنسبة لي لأنه لم تكن تربطني به علاقة شخصية، ما يعني أنه غير مضطر لمجاملتي، ولا يوجد أي ضغوط صداقة أو خصومة عليه.
وقتها ظهر عبده، في برنامج تلفزيوني مهم وتكلم عن الفيلم، وتوقف طويلاً عند دوري، وأبدى إعجاباً خاصاً، وراح يحلل أدائي بطريقة علمية، وتوصل في نهايته إلى أنني تقمصت الشخصية وكأنني واحدة حقاً من "عوالم" ذلك الزمن بكل سحره وغموضه.
لكني لن أكون منصفة، إن لم أعطِ الحق كاملاً لصاحب الدور الأبرز في نجاحي ونجاح هذا الفيلم، وأقصد به مخرجه حسن الإمام.
متعة التصوير
ومن أبرز مزايا حسن الإمام في رأيي، أنه يجعل من أيام التصوير متعة بلا حدود، ويحوّل المسرح إلى بيت عائلة مليء بالدفء والحميمية، وكأنك بين أهلك فعلاً، ولا تريد أن تغادره.
في أيام "قصر الشوق" كنت أقضى أحياناً 18 ساعة متواصلة في "العوامة" التي أصور فيها مشاهدي، نعمل بمتعة وبمزاج وحماس وبلا ملل، إلى أن يخبرنا مدير التصوير أن نور الصباح قد أشرق، ويستحيل التصوير لأسباب فنية، فأتذكر ساعتها أنني لم أذق طعم النوم منذ يومين، فأركض إلى بيتي لأستريح لبضع ساعات وأعود سريعاً إلى مكان التصوير، وكأني فتاة على موعد مع حبيبها.
ولم يكن ينافس حسن الإمام في صناعة هذا الجو الممتع في أثناء التصوير، سوى المخرج فطين عبد الوهاب، أذكر في فيلم "عندما نحب" (عُرض عام 1967 وهي السنة نفسها التي عُرض فيها قصر الشوق) كنت أتعمد أنا ورشدي أباظة، وسهير البابلي، أن نخطئ كثيراً حتى تطول أيام التصوير، واليومان اللذان حددهما فطين لتصوير المشاهد الأخيرة طالت لأسبوع".
ومن أبرز مزايا حسن الإمام كذلك قدرته الفذة على اختيار الممثل المناسب في الدور المناسب، في "الثلاثية" على سبيل المثال، لا يمكن أن تتخيل ممثلاً آخراً في دور "سي السيد" غير يحيى شاهين، ويصعب أن تتخيل ممثلاً آخراً في دور "ياسين" سوى عبد المنعم إبراهيم.
موسوعة حية
وعلى الرغم مما يبدو من طيبته الظاهرة، إلا أن حسن الإمام كان يتمتع بشخصية قوية تجبرك على احترامه ومهابته، صحيح أنه كان يحب ممثليه ويدلّلهم، لكنه أبداً لم يكن يسمح لأحد أن يخرج على النظام أو يخدعه. لا يمكن لممثل مهما كانت درجة احترافيته أن يخدع حسن الإمام أو يضحك عليه، بسهولة شديدة يعرف ما إذا كنت تؤدي بصدق وبمزاج أم تمثّل والسلام.
ولا بد أن يأخذ منك ما يريده بالضبط، وبطريقة الأداء التي تعجبه هو، لذلك كان قادراً دوماً على أن يفجر في الممثل طاقات جديدة لم يتخيل أنها عنده. أتصور مثلاً أن طريقة تمثيل عبد الحليم حافظ في "الخطايا" كانت الأكثر صدقاً وتفرداً في سلسلة أفلامه، إنه يعرف كيف يدير الممثل ويوجهه ويصل به إلى حالة الوهج.
وأشهد أن حسن الإمام الذي ظلمه النقاد واتهموه بالسطحية، كان من أكثر المخرجين الذين عرفتهم ثقافة واطلاعاً، فكان يُجيد اللغة الفرنسية، وعلى اطلاع دائم بما تصدره المكتبات في أوروبا ويشتري أحدثها، وكان "يمصّر" (تحويلها إلى مصرية) المسرحيات العالمية ويحولها إلى أفلام سينمائية، أضف إلى ذلك ثقافة واسعة وحقيقية بالفن الشعبي والفلكلور المصري، وكان يحفظ كل المونولوغات وأغاني العوالم والفلاحين والصعايدة، بل يكتب على منوالها أحياناً، وكنت أعتبره موسوعة حية في أغانينا الشعبية.
ولذلك أقول دائماً وبضمير مرتاح أن حسن الإمام علامة من علامات السينما المصرية، وأفلامه في حاجة لإعادة اكتشاف وتجربته "منجم" لم يبح بكل كنوزه وأسراره.
في الحلقة المقبلة: تتحدث نادية لطفي عن زيارتها للبنان عام 1982 وقت اجتياح بيروت، وتروي تفاصيل لقائها بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتحكي عن المفارقات التي حدثت لها في رحلتها لبيروت الشرقية.