للمرة الثانية في أقل من 5 سنوات- عقب فوز فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري- تشارك مصر ضمن منافسات مسابقة أسبوع النقاد بفيلم المخرجين ندى رياض وأيمن الأمير "رفعت عيني للسما"، حيث تشكل التظاهرة الهامة واحدة من البرامج الموازية التي يتكون منها محتوى مهرجان كان السينمائي الأشهر في العالم، إذ تأسس الأسبوع عام 1962 بغرض اكتشاف المواهب السينمائية الطازجة التي تقدم تجاربها الأولى والثانية.
كان الثنائي (رياض/الأمير) قد قدما فيلمهما الأول "نهايات سعيدة" عام 2016، وهو وثائقي ذاتي يحكي قصة زواجهم المعقدة على خلفية تباين عنيف في العقيدة والبيئات الاجتماعية والروافد الفكرية، وفي لحظة ديستوبية من التاريخ المصري الحديث عقب حراك يناير 2011، وقد تعرضت التجربة لتضييقات رقابية شديدة، لكنها لم تفت في عضد الطموح الجارف والشغف بصناعة الأفلام لدى المخرجين الشابين، اللذان أسسا شركتهما الإنتاجية الخاصة "فلوكة" وسعيا لإنجاز تجربتهم الوثائقية التالية، والتي كللت بالاختيار الرسمي ضمن قائمة تضم 7 أفلام تتنافس على جوائز الأسبوع، ليفوزا في نهاية المهرجان بجائزة العين الذهبية.
رفعت عيني
يضع صناع الفيلم للتجربة عنوانين، الأول بالعربية وهو "رفعت عيني للسما"، وهو عنوان يجمع خليطاً ما بين المقاومة، وهي واحدة من الأفعال الرئيسية للشخصيات بالفيلم، وعلى عكس الأكف التي تعطي انطباعا بالتوسل والرجاء، يمنح فعل رفع العين تأثيراً أكثر تمرداً وقوة، ويحمل حس صوفي يوحي بالمحبة العميقة والإيمان بأن المطلوب من القوى العليا سوف يأتي ذات يوم.
العنوان الثاني هو العنوان الإنجليزي للفيلم، وترجمته "حافة الأحلام"، وهو تعبير ذو دلالة شعرية معلنة، توحي بملحمية الموقف الوجودي والاجتماعي والإنساني والعاطفي لمجموعة فتيات "فرقة بانوراما برشا"، وهي فرقة مسرح الشارع المكونة من عدة فتيات يملكن شغفاً جارفاً تجاه الفن، كأداة حادة الصوت للتمرد والمقاومة، ويسكن في قرية البرشا في أعماق محافظة المنيا الصعيدية، بل وتمتد دلالات (الحافة) إلى التعبير عن الخوف من عدم التحقق، أو فقدان بوصلة الثبات على المبدأ، أو خطر السقوط في هوة ضياع العمر وانكسار الروح.
في اللقطات الأولى نرى الفتيات، وهن يعبرن كالبراعم الطائرة فوق الحقول الواسعة الخضراء، كأنهن قادمات من أرض الأحلام، ثم نراهن يتلاعبن بالماء في النيل، وأرجلهن مغمورة بمائه الذي يختلط بضحكاتهن المستبشرة بالحياة والقادم، ثم كأنما رواهن النيل، فأنبتهن زرعاً طيباً؛ يقدم لنا المخرجان اللقطة الأخيرة في الافتتاحية الشعرية الرقيقة كأنهن يسرن فوق الماء –بكل ما تحمله إشارات السير فوق الماء من ثقل ديني وصوفي واجتماعي- خاصة عندما تصلنا معلومة إنهن مسيحيات سواء عبر الأسماء أو صور وأيقونات القديسين التي لا يكاد يخلو منها مشهد بالفيلم.
هذه الافتتاحية تؤصل لأسلوبية الصنّاع في التعاطي مع المواد الأثيرية، التي تتشكل منها مادة الحلم الذي يراود المجموعة الشابة، فحجم المعلومات التي يتلقاها المشاهد لا تأتي بالتلقين ولا النقل المباشر، فلا تعليق صوتي من خارج عالم الفيلم ولا تعريفات بأسماء أو أماكن أو شخصيات تكتب على الشاشة، بل معايشة مخلصة للمدرسة التسجيلية التي يتبعها الصناع في رصد اليومي، المعاش، أو التقاط المخفي والغامض أو هواجس الإخفاق والاستسلام.
تمنح تسجيلية المعايشة فرصة كبيرة للرصد وحشد التفاصيل، خاصة مع الحكايات التي تتشكل من التفاعلات البطيئة بين الشخصيات والبيئة المحيطة، كما تُراكم الزمن بصورة عفوية ومتصاعدة لا غنى عنها لمثل هذا النوع من القصص، والتي يلعب الوقت فيها دور الخصم والحكم، فالفتيات في الفرقة في خصومة مع الزمن بمستواه المعنوي، أي العصر الذي يعيشون فيه، وفي خصومة مع مروره الخارق، وهن يسابقنه كي يحققن أحلامهن الطموحة حد الاستحالة، وهو ذاته الحَكَم الذي يراهنَ على أن تقدمه أو استغلاله والسعي وراء اكتساب الخبرات عبره، هو ما سوف ينصف قضاياهن التي يرونها عادلة ومستحقة الفوز.
"ولا عارفة ألبس فستان!"
تقدم مجموعة "بانوراما برشا" عروضها المسرحية في الشارع، عبر شكل أقرب للمظاهرات الملونة بالبساطة والمباشرة والهتاف البريء ضد ما يعوقهن ويعوق من هن على شاكلتهن، من مشكلات ظاهرها اجتماعي (الزواج القسري- الأمومة المبكرة- السلطة الأبوية- العنصرية الذكورية- الكبت- التسفيه- التنمر)، بينما باطنها يحتوي على شكوى حقيقية من الوضع الحضاري والإنساني، الذي وصل إليه المجتمع الذي يفتقد مقومات الحداثة وملاذات التقدم، سواء بحكم الانعزالية – الصعيد- أو العصبيات البالية أو السياجات الدينية، بل ان الهتافات والأغاني والاسكتشات اللائي يقدمنها، تختصر الصورة الكبيرة للوضع المزري في جمل وتراكيب طفولية؛ كان تعلن إحداهن أثناء العرض في منتهى الأسى (ولا عارفة ألبس فستان) كناية عن كل طاقة التمرد الحبيسة، والرغبة الحارة في إطلاق العنان لعصفور الحرية المكبل بصدأ الأوضاع المعيشية شحيحة المادة خاملة الأفق.
تدور كاميرا المخرجين على الفرقة سواء في مظاهراتها المسرحية، أو عبر البروفات والجلسات التحضيرية التي يتشاركن فيها البوح عن الأحلام والهواجس والكوابيس، كمادة خصبة للأسكتشات والأغاني، واللائي يصغنها من أجل عروضهن، لا يكاد يغيب الحديث عن الأحلام بمختلف تجلياتها عن مشاهد الفتيات الثلاث (ماجدة ومونيكا وهايدي)، سواء الحلم بمعناه المجازي كامل أو الحلم كزمن للسعادة المؤجلة، أو الرؤى التي يفرزها لا وعيهن الجمعي في مشاهد الحديث عن الكوابيس الليلة المرعبة.
منزوعة الريش
بمكر شديد وبراعة في التقاط التحولات، يمسك الفيلم بخيط مراوغ وشديد الحساسية يمثل نقطة تحول دراماتيكية هامة في حياة الفتيات الثلاث، فالمعايشة تمكنه من رصد التنازع الحاد بين الرغبات الشخصية، والسعي نحو إشباع الميول العاطفية، وتلبية احتياجات الغرائز الاجتماعية عبر التوق للاكتمال الشعوري والجسدي بالحب والزواج والخطبة، في مقابل كهرباء الشغف الفني التي تستعر في داخلهن، فكل من مونيكا وهايدي اللائي نراهن يمجدن المقاومة، ويربطن على قلوبهن حجر أثناء المظاهرات المسرحية، تصمت شرارات العاطفة الفنية بالتدريج في داخلهن، بينما تتأجج عواطفهن الأنثوية تجاه الذكور الذين تقدموا لخطبهتن، فمونيكا صاحبة الصوت المشروخ التي كانت تريد أن تصبح مطربة تنافس أصالة يخطفها الزواج لشهور من الفرقة، حتى إن ماجدة تطاردها بالمكالمات من أجل أن تعود إلى البروفات، رغم أن خطيبها/زوجها يطلق لها عنان مطاردة حلمها الدائم بالغناء.
بينما هايدي التي تعتبر ابنة عائلة فنية (أمها دميانة بطلة فيلم "ريش" لعمر الزهيري والتي تظهر في الفيلم، وقد أصبحت وجه مألوف لجمهور أسبوع النقاد في كان)، بل ويبدي أباها تفهماً استثنائياً يتحرر فيه من أثر العصبيات وبقع التقاليد الداكنة؛ تترك هي مقودها لسيطرة الخطيب الذي يطلب منها مسح أرقام مجموعة البانوراما من هاتفها، متهما إياها بأنها منحرفة وخائنة، طالما لم تغادر حلمها بأن تصبح ممثلة أو راقصة بالية.
هكذا تنجح تسجيلية المعايشة في صيد المأزق الوجودي بكل جدليته المراوغة، فبينما كانت عروضهن تصرخ رغبة في التحرر وانتزاع المبادرة والإرادة الحرة بقبضة صلبة ومستميتة، فإذا بهن يتخلين عن كل هذا عندما يتحقق اكتمالهن -المتصور- بالشريك!
ليصبح السؤال: هل أدى الفن الغرض من وراءه؟
هل اكتمل الحلم بالتحرر عندما صارت كل منهن حبيبة أو خطيبة أو زوجة!
إن ماجدة تلوم مونيكا على غيابها لشهور عن الفرقة، فترد مونيكا أنها عروس وبيتها يستحق الالتفات والعناية – نراها بالفعل في البيت، وهي تؤدي مهامها كزوجة نشيطة- بينما تنتحي هايدي جانباً في البروفات لكي تدافع عن نفسها في التليفون ضد اتهامات الحبيب الرافض لوضعها، كعضوة في فرقة مسرح شارع يرقصن فيه للناس دون اعتبارا لسياقات المجتمع الملوث بالمحافظة الفارغة.
في حين تبدو ماجدة هي الوحيدة التي تتشبث بحافة حلمها، وفي كل مرة عندما يصدمها رد واحدة من زميلاتها يحيلها الفيلم شعرياً إلى وصف مؤثر ودرامي، كأن نراها مرة تنظف بأسى دجاجة منزوعة الريش (مسلوخة) كأنها هي، أو تغرق نظرتها الحزينة في ألسنة اللهب المتصاعدة من حريق قش الرز كمعادل لغضبها الداخلي من أثر التخلي الفاضح الذي لطخ فرقتها عقب انسحاب مونيكا وهايدي، وكأن كل ما صرخن به طار صداه من دون رجع حقيقي.
طبول الحرية
بذكاء يترك الفيلم إلى حدس المتلقي ومفهوميته المقاربة بين موقف الفتيات قبل الحب والزواج وبعده، كنماذج لشمولية السياقات الاجتماعية وجدليتها غير الهينة، بينما تحافظ له ماجدة على استمرارية السعي، رغم انتصارات الواقع بكل سخافاته، تخلي زميلاتها عن حلم الفرقة، أو تنمر الأخ الذكر وسخريته التافهة من طموحها المستحق، فنراها تقرر السفر إلى العاصمة لكي تتقدم لمعهد الفنون المسرحية، وتواجه المترو/الوحش الذي يخيفها به أخاها كأنها طفلة صغيرة يريد ردعها عن الخروج للعالم الواسع.
وبذكاء أيضاً لا يستسلم الفيلم ككائن حي مفعم بالمقاومة والتمرد لخفوت الخط الحياتي الخاص بفتيات الفرقة، بل يصعد في نهايته – صعود معنوي وبصري- إلى وجوه جديدة لفتيات جديدات– كأنهن الجيل الأحدث من فرقة البرشا- يصنعن أدواتهن الصوتية الخاصة للإعلان عن القدوم من أجل تقديم العروض، وهن يضربن على طبولهن البدائية- طبول الحرية- ليقرعن أسماع مجتمع كلما أعاد إنتاج الكبت، أو حطم حواف الأحلام حد السقوط أفرز في نفس الوقت براعم المقاومة والتمرد، وكأنه ارتباط شرطي بين نقيضين، كلما تفاقم أحدهم برز الآخر في مواجهته.
ومن وجوه الفتيات اللائي يمزقن الأصوات اليومية الكسولة في شوارع القرية، تصعد الكاميرا في لقطة علوية، ليظل صوت دق الطبول والغناء العفوي الخشن صاعداً معنا كأنما هو قادم من الخطوط الضيقة التي تدعى مجازاً شوارع، والتي نراها كعروق جافة تمر بين أكداس من البنايات العشوائية الملتصقة كأنما كهوف تحبس الفراشات عن أن تطير، ولكنها حتماً ستطير ذات يوم، وتحلق فوق الحقول الواسعة كما طارت سابقتها التي رأيناها في اللقطة الأولى من الفيلم، صحيح أن السعي خاب لبعضهن، ولكن مجرد وصول الشريط الذي صنعنه بحكاياتهن إلى مهرجان كان يعني أن الخروج للنور والسير على الماء نحو الحلم، ليس معجزة أو مستحيلاً.
* ناقد فني