أقوى فيلم في "فينيسيا": "ينعاد عليكو" والمأساة الإسرائيلية!

مشهد من الفيلم الفلسطيني "ينعاد عليكو" - facebook/Labiennaledivenezia
مشهد من الفيلم الفلسطيني "ينعاد عليكو" - facebook/Labiennaledivenezia
فينيسيا -عصام زكريا*

واحد من أفضل الأفلام التي عرضت في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته 81، والذي فاز بجائزة السيناريو في قسم آفاق، هو الفيلم الفلسطيني "ينعاد عليكو" أو بالإنجليزية Happy Holidays، تأليف وإخراج وإنتاج إسكندر قبطي، وهو فيلمه الروائي الطويل الثاني بعد 15 عاماً من فيلمه الأول "عجمي" الذي صدر في 2009، وحصل على جائزة من مهرجان كان السينمائي، وعدد آخر من الجوائز، وأثار ضجة كبيرة حول شرعية تمثيله للفلسطينيين داخل الكيان الإسرائيلي، بسبب مضمونه المعادي للكيان من ناحية، وبسبب إصرار قبطي على أنه، وفيلمه، يمثلان فلسطين.

إسكندر، المولود في تل أبيب، ينتمي لعرب الداخل، الذي بقوا رغم كل محاولات التهجير، ورغم المعاناة اليومية التي يتعرضون لها كأقلية دينية وعرقية داخل كيان يصنف بأنه الأسوأ في الفصل العنصري على مر التاريخ، وهذا بالضبط هو الموضوع الرئيسي الذي يشغل قلب فيلم "ينعاد عليكو".

تفكيك السرد.. والعنصرية!

في بناء ما بعد حداثي (post- modernist)، يفكك السرد الخطي التقليدي (الذي يعتمد على ترتيب الوقائع زمنياً، ووفقاً لقاعدة الفصول الثلاثة للدراما: مقدمة الصراع وذروته وانحلاله)، يقسم قبطي فيلمه إلى فصول مماثلة، ولكن وفقاً للشخصيات، وليس للترتيب الزمني للأحداث.

البناء هنا أقرب ما يكون إلى بناء فيلم Pulp Fiction، لكوينتين تارانتينو، 1994، الذي أحدث ثورة في طرق السرد السينمائي في زمنه، ولكن على عكس تارانتينو الذي كان مشغولا بالابتكار الشكلي واللعب المرح بالأفكار، فإن "ينعاد عليكو" يستخدم الشكل ليرسم صورة بانورامية، مثل الـ puzzle، المكون من 4 قطع، تتضح معالمها مع الدقائق الأخيرة للفيلم، تاركة تأثيرها الثقيل على المشاهد بطريقة تصاعدية تراكمية، لم يكن لها أن تخلف مثل هذا التأثير إذا صنع الفيلم بطريقة تقليدية، وهذه هي نقطة القوة الأولى في "ينعاد عليكو"، والتي تتمثل في اتحاد المضمون بالشكل عضوياً.

يعرض "ينعاد عليكو" صوراً من واقع الحياة داخل الكيان لا تعرضها وسائل الإعلام، التي تركز عادة على نتائج السياسات الاجتماعية والثقافية من عنف ومواجهات، وليس على واقع هذه الممارسات اليومي، والذي يؤدي في النهاية، وبالضرورة، إلى العنف.

خلف الجدار العنصري

يختار إسكندر قبطي عائلة عربية فلسطينية مسيحية، مثل التي ينتمي إليها، ويركز على الشخصيات النسائية، وهي أقلية داخل أقلية داخل أقلية تتعرض لضغوط مزدوجة: التمييز الذي يصل إلى حد الاضطهاد من قبل النظام الإسرائيلي والإسرائيليين، وضغوط الثقافة العربية ذات الهوية والتقاليد الخاصة، المحافظة، وسط مجتمع حديث يتمتع فيه الأفراد بالحريات الشخصية، ولو ظاهرياً كما يبين الفيلم. 

تروي القصة الأولى حكاية الشاب "رامي" الذي يدخل في علاقة مع الفتاة اليهودية "شيرلي"، تسفر عن حملها، وفيما تعلن هي عن تمسكها بالحمل يحاول هو إثناءها عن ذلك، لعلمه بالمشاكل التي ستنجم عن ذلك في عائلته.

ورغم ما يبدو من أن الفتاة "حرة" في قرارها، لكن "العصابات" اليهودية التي تعمل بشكل علني وسري لها رأي آخر، إذ تتآمر مع أخت الفتاة من أجل إجهاضها والإيقاع بينها وبين حبيبها العربي.

وتروي القصة الثانية حكاية أخت الفتاة "ميري"، وهي طبيبة لديها ابنة مراهقة تصاب بأعراض نفسية حادة (أو تدعي أنها مصابة بها) بسبب عدم رغبتها في الالتحاق بالجيش "الإجباري"، مثل حالة كثير من الشباب الإسرائيليين كما يشير الفيلم.

أما القصة الثالثة، فتعود إلى الأسرة العربية، من خلال "فيفي"، أخت "رامي"، التي يتبين أن لها أسرارها أيضاً، والتي يحدث انكشافها زلزالا داخل الأسرة.

أعياد.. ولكن للقتل!

هذه، باختصار مخل، خطوط حكايات "ينعاد عليكو"، ولكن الشخصيات والتفاصيل الكثيرة الأخرى، التي تشغل أكثر من ساعتين، تمتلئ بالتشويق والمشاعر والمعلومات والخلفيات الاجتماعية الكاشفة، وربما المفاجئة، لكثير من الناس الذين لا يعرفون حقيقة ما يجري خلف السور الحديدي الإسرائيلي.

بحسب عنوان الفيلم، يختار إسكندر قبطي فترة احتفالات وإجازات دينية، في تلك المنطقة التي تعج بالمناسبات والأعياد الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، ولكن هذه الأعياد والطقوس وأمارات التسامح والإنسانية والبهجة التي يفترض أن تحملها هذه الأعياد، ما هي إلا طقوس "حشد" و"تعبئة" تحمل العداء والعنف الباطني.

ويظهر ذلك بوضوح في الطوابير والاستعراضات والأناشيد "العسكرية"، التي تظهر في الشوارع والمدارس عبر الفيلم، ومع تتابع أحداث الفيلم تتكشف السخرية الشديدة التي تكمن خلف عنوان الفيلم.

يصل "ينعاد عليكو" إلى ذروة التعبير عن فكرته، من خلال التركيز على شخصياته النسائية، بمختلف أديانهن وخلفياتهن الطبقية والثقافية، اللواتي ينصب عليهن كل مظاهر التمييز والعنصرية بمختلف الأشكال: من سيطرة الأم والتقاليد العربية على "فيفي"، وهي تقاليد تبدو خشنة ومرتفعة الصوت، وإن كانت أخف وأنعم مما تبدو عليه، إلى الشكل الأكثر نعومة وخبثاً وقسوة الذي تتعرض له "شيرلي"، ويصل إلى حد الجريمة متكاملة الأركان.

"ينعاد عليكو" عمل كاشف يأتي في وقته تماماً، من المهم أن يشاهده كل إنسان لديه اهتمام بمعرفة ما يدور في الشرق الأوسط، داخل تلك البقعة الدامية المميتة، التي تصدر الكراهية والعنصرية والقتل، ولكن المهم أنه يفعل ذلك بلغة سينمائية بليغة: كتابة وتمثيلاً وتصويراً ومونتاجاً، حيث تتكامل وتتناغم كل العناصر الفنية لإحداث التأثير الوجداني، وتحول الحقائق والمعلومات "الجافة" إلى حياة من لحم ودم.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك