إلياس خوري.. مولود النكبة يغادر في "موسم الموت"

الكاتب والروائي اللبناني الراحل إلياس خوري - Facebook/eliaskhoury
الكاتب والروائي اللبناني الراحل إلياس خوري - Facebook/eliaskhoury
تونس -حاتم التليلي محمودي

رحل إلياس خوري، زرع جسده في بطن الأرض ونام، التحق بإدوارد سعيد ومحمود درويش وسمير قصير وغسان كنفاني وكمال ناصر، هو الآن بريء من كافة أشكال الصمت والتواطؤ أمام ما يحدث من مجازر، بريء من كلّ البراقع والأدخنة التي توغّلت عميقاً لتحجب "باب الشمس". 

رحل إلياس خوري، لكن قبلها ولد عام 1948؛ بعض الأرقام والتواريخ لا تأتي إلينا عن طريق الصدفة، إنها تشبه النذور والعلامات والإيماءات، كما لو أنها تعويذة في يد السّحرة. 

نعم جاء إلى الحياة في عام النكبة الفلسطينية، وغادرها في أيام تعادلها مرارة، ويتشبّث فيها الفلسطيني بأرضه أكثر من أيّ وقت مضى، على الرغم من استباحة جسده وممتلكاته وحياته تحت الدبّابات وركام الحرب. 

الفنان مارسيل خليفة إلى جانب محمود درويش وإلياس خوري وسمير قصير
الفنان مارسيل خليفة إلى جانب الراحلين: محمود درويش وإلياس خوري وسمير قصير -Facebook/eliaskhoury

ليست "باب الشمس" مجرد رواية طائشة في غابات السرد، وليست سيرة لمملكة الحب فقط، ولا فيلماً تمّ إنجازه من قبل يسري نصر الله ومحمد سويد.

تحوّلت الرواية إلى طاقة بركانية منذ اللحظة التي أصبحت فيها عنواناً لقرية فلسطينية على مشارف القدس المحتلة. كان ذلك حين أقدم نحو 250 شاباً فلسطينياً على مقارعة المستحيل، من خلال مواجهتهم المخططات الاستيطانية، فانتزعوا أرضهم من مستوطنة إسرائيلية، ومنحوها اسماً هو "باب الشمس".

أي رواية هذه التي تحوّلت إلى بيان للحرية، إلى أسطورة حيّة، وأي رواية تلك التي قذفت بالسّرد ليصبح حقيقة على أرض الواقع، مثل قصّة الحب الواقعية التي تناولت تجربة ذلك الفلسطيني في المخيمات اللبنانية، وهو يكافح للوصول إلى الجليل، حيث تعيش سيّدة قلبه وحبيته وجمرة عشقه. 

حينها كتب إلياس خوري نصّاً شاهقاً منحه عنواناً هو "رسالة إلى أهلي في قرية باب الشمس"، قال فيه: "لم أشعر أن الحياة تعطيك أكثر مما تستحق، أكثر من هذه اللحظة التي يتحوّل فيها الأدب إلى واقع".

رواية
رواية "باب الشمس" للراحل إلياس خوري

هل كان رحيل إلياس خوري واقعياً مثل روايته، ولماذا في هذه اللحظة من تكرار المحرقة بأشدّ الأساليب عنفاً ودموية.

نعم مرّة أخرى، ولد إلياس خوري في تلك اللحظة من حداد النكبة وسوادها، وها هو يودّعنا في هذه اللحظة من انفجار "باب الشمس"، كي يطلّ نورها غاضباً، فاضحاً أشكال الموت والإبادة. 

حزن المثقفين

 الشاعر والكاتب اللبناني عباس بيضون كتب نصّاً على صفحته في وداع الراحل قال فيه: 

"إن بقيت لنا الآن كلمة، يمكننا القول إن رحيل إلياس زميلنا الفريد في موسم الموت هذا، هو على نحو ما نهاية عهد ونهاية جيل. لا يمكننا أن ننسى نزوع إلياس الفلسطيني. موته اليوم يبدو حميماً في صلته بالموت الفلسطيني العارم. موته اليوم يعيدنا إلى حكم عام.. إنه أيضاً موتنا".

آخر إصدارات الكاتب الراحل إلياس خوري
آخر إصدارات الكاتب الراحل إلياس خوري "رجل يشبهني"

وقالت الروائية الفلسطينية سامية عيسى عن الراحل: "في رائعته "باب الشمس"، كتب إلياس خوري ما لم يكتبه الفلسطينيون عن أنفسهم، تحدّى العالم في سرد حقيقة ما حدث، وفضح بأسلوب رقيق وحنون آلام الفلسطينيين، وتطرّق إلى أمور لم يسبق أن تحدث عنها كبار الأدباء والكتّاب الفلسطينيين".

أضافت: "شكّلت "باب الشمس" علامة فارقة في كتابة السردية الفلسطينية حتى يومنا هذا. وما لبث أن أكمل السردية بما هو أقوى وأجرأ في ما بعد خاتماً مسيرته بـ"ثلاثية أبناء الغيتو" التي أنهاها برواية "رجل يشبهني" ويشبه إلياس خوري نفسه".

قال محمود درويش رفيق الراحل: "هَزَمَتك يا موت الفنون جميعها".. كما هزم إلياس خوري الموت أيضاً، فهو صاحب "الوجوه البيضاء"، و"الجبل الصغير"، و"رحلة غاندي"، و"الذاكرة المفقودة"، و"أبواب المدينة"، و"رائحة الصابون"، "ومجمع الأسرار"، و"مملكة الغرباء"، و"نجمة البحر"، و "يالو"..

تلك كانت مسيرته مع جريدة "النهار" والقدس العربي ومجلة الدراسات الفلسطينية، وتلك مسيرته السياسية والأكاديمية في أهم الجامعات العالمية، وتلك أقلام المترجمين التي احتفت بأعماله، ونقلتها إلى اللغات العالمية مثل الهولندية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية.

لم يفتح إلياس الخوري "باب الشمس" في فلسطين وبيروت ومخيّمات اللاجئين فقط، فأينما وُجد كان يخلع الأقفال، ويحرّر هذا الكوكب، ناشراً رأيه ضدّ أشكال الظلم والظلام.

إلياس خوري في تونس

 سبق وأن جاء الراحل إلى تونس في لحظة صعبة في تاريخ البلاد، وحاضر في بيت الرواية أثناء ملتقى تونس للرواية العربية في دورته الثانية، حيث تمّ التأثيث للقاء خاصّ معه تحت عنوان "الكتابة الروائية في زمن الألم العربي"، قال فيه: 

"نحن اليوم أمام تحدّي تأويل صمت الضحايا، فهل نستطيع صنع إطار حكائي وسط بحار الدم والألم والهجرات. إن آلام الناس هي الموضوع، لكنها اليوم صارت خارج الموضوع".

أضاف: "إذا كان لهذا الربيع العربي من معنى، فإنه يجب أن يتجسّد في الثقافة، وإذا لم تُحدث الثورات تغييراً في الثقافة، فلا معنى لأن تُحدث تغييراً في السياسة".

نعم، لقد توقّف قلب إلياس خوري عن النشيد الآن، ولكن هذا الخبر لم يزلزل أهله في لبنان فحسب، بل نزل صاعقاً على قلوب الذين خبروه وعرفوه في تونس والوطن العربي برمّته. 

نشر المسرحي التونسي توفيق الجبالي على صفحته صورة قديمة جمعته مع المخرج المسرحي روجيه عسّاف والراحل في مسرح بيروت، ثمّ رثاه بهذه الكلمات المؤثّرة: "يُعدّ خوري أحد أعظم الأدباء والمفكرين الذين أثّروا في الساحة الثقافية العربية، وكان له دور بارز في إثراء الأدب والفكر بعمق رؤيته الإنسانية والاجتماعية".

أضاف: "إلياس خوري كان  صديقاً عزيزاً لمسرحنا. كان لنا الشرف بأن نعيش تجربة استثنائية بفضله، عندما قدّمنا سلسلة عروض "كلام الليل" على خشبة مسرح بيروت الذي كان يديره عام 1996. كانت من أعمق وأثرى التجارب التي خضناها. ما كتبه خوري حول تلك التجربة وما قدّمه من دعم وتوجيه كان له تأثير كبير علينا، كان يترك بصمته في كل مكان، بروحه الإنسانية وكتاباته العميقة".

موت بعض الكبار مثله يصبح حدثاً ورمزاً في أفق الثقافة العربية، لقد نذروا حياتهم في خدمة القضية، لذلك يصبح موتهم الآن تذكيراً لنا بعدم نسيانها.

 إن النسيان يحجب الشمس، لكن رفاق إلياس الخوري يتذكرون الآن ما قاله الشاعر التونسي مختار اللغماني: "أقسمت على انتصار الشمس". 

تصنيفات

قصص قد تهمك