كتاب جديد للمؤرّخ الفرنسي جان بيير فيليو

كيف ضاعت فلسطين.. ولم تنتصر إسرائيل؟

كتاب "كيف ضاعت فلسطين ولماذا لم تنتصر إسرائيل تاريخ صراع" للمؤرخ جان بيير فيليو - @marenostrummed
كتاب "كيف ضاعت فلسطين ولماذا لم تنتصر إسرائيل تاريخ صراع" للمؤرخ جان بيير فيليو - @marenostrummed
الدار البيضاء-مبارك حسني

يقدّم المؤرّخ الفرنسي جان بيير فيليو، في كتابه الصادر حديثاً  بعنوان "كيف ضاعت فلسطين ولماذا لم تنتصر إسرائيل" (دار لوسوي باريس 2024)، مقاربة غير مسبوقة للصراع العربي الإسرائيلي، بدءاً من القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن الواحد والعشرين.

المحاضر في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في معهد العلوم السياسية في باريس، هو باحث ومستعرب، نشر كتباً عدّة عن العالم العربي والإسلامي، وتُرجِمت أعماله إلى 15 لغة.

المؤرّخ الفرنسي فيليو
المؤرّخ الفرنسي فيليو - dohainstitute.org

يقول فيليو إن كتابه هو "دراسة هزيمة ذات طابع متناقض، لأن الصراع لم يجلب السلام والأمن للجهة المسيطرة". 

لم يعتمد الكاتب في دراسته على التسلسل الزمني للأحداث، بل استند إلى ترتيب جديد لها، عبر إدراج عناصر مؤثّرة جديدة، وإعادة النظر في محكيات الإسرائيليين والفلسطينيين.

الصهيونية المسيحية

أول هذه العناصرِ هو أثر الصهيونية المسيحية البريطانية والأميركية السابقة تاريخياً على المشروع الصهيوني. وخصّص لها الجزء الأوّل من الكتاب.

أما العنصر الثاني فهو ما يُسميه "نقاط ضعف" الحركة الوطنية الفلسطينية، وأثر الاستقطابات المتناقضة والحادة التي تعرفها الفصائل المختلفة داخلها، بعد انهيار "وهم" المشروع القومي العربي.

ويتعلق العنصر الثالث، بأثر المحيط السياسي العالمي، الذي يعرقل مسارات الحل أكثر مما يُسهّلها، ما ينبئ بعدم وجود نهاية للصراع في الأفق القريب، مع طغيان العنف وتجدّده في كل مرّة، وعدم التعامل مع الحلول المقترحة، ما يبقي القضية معلّقة.

على إيقاع "التشاؤل"

يستشهد المؤرّخ الفرنسي في كتابه بالروائي الفلسطيني إميل حبيبي، ابن حيفا، في روايته الشهيرة "المتشائل" قائلاً: "أنا مثلاً، لا أميّز التشاؤم من التفاؤل، فأسأل نفسي: من أنا، أمتشائم أم متفائل؟ 

أقوم في الصباح من نومي، فأحمده على أنه لم يقبضني في المنام، فإذا أصابني مكروه من يومي أحمدُه على أن الأكثر مكروهاً لم يقع، فأيهما أنا، المتشائل أم المتفائل؟" 

إنه صراع متأرجح منذ عقود بين الانفراج المؤجّل والانسداد المقيم، لا يدع للتفاؤل أن يتسلل، في خضم ديناميات العنف التي تُميّز أطول صراع معاصر على وجه الأرض.

 

كتاب للمؤرخ الفرنسي فيليو بعنوان تاريخ غزة
كتاب للمؤرخ الفرنسي فيليو بعنوان تاريخ غزة - babelio.com

الصهيونية المسيحية

تكمن الأهمية الرئيسية للكتاب في تسليط الضوء على وجود "صهيونية مسيحية" سابقة على الصهيونية التاريخية، نظّر لها ثيودور هرتزل، ونشأت في الأوساط البروتستانتية الإنجيلية الأنغلو - سكسونية، تعود جذورها إلى 1620، بالموازاة مع غزو أميركا، وتأسيس روّادها لإقامات عدّة تحمل اسم صهيون. 

وقد تمّ تأكيدها وانتشارها في منتصف القرن التاسع عشر، خصوصاً حين نشر القسّ جورج بوش كتاباً بهذا الخصوص، وهو من العائلة التي خرج منها الرئيسان الأميركيان بوش الأب والابن.

تفترض الصهيونية المسيحية وجوب تحقيق مشيئة الله، المُتجلّية في "العودة الثانية" للمسيح، كي يؤسس المملكة الإلهية على الأرض، وهي مشروطة بعودة اليهود إلى فلسطين.

يقول جان بيير فيليو: "تُعرف الصهيونية بأنها حركة تدعو إلى جمع شتات الشعب اليهودي على أرض إسرائيل. وسبق أن تبناها تاريخياً مسيحيون، قبل أن يعتنقها يهود فيما بعد. إنها حقيقة تاريخية تثير الحيرة، لأنها لم تكن معروفة تماماً من قبل، وخصوصاً أنها شكّلت رصيداً هائلاً برّر الاستيطان اليهودي لفلسطين، رغم المقاومة المبكرة لسكان الأرض المحليين" (ص 31).

 يُظهِر ذلك بأن هؤلاء المسيحيين، كانوا أكثر تطرفاً ممن تبنّوا الصهيونية فيما بعد، والذين قاموا بنشر مبادئها وتعاليمها في إطار مؤسسات وأحزاب يهودية مختلفة، بغض النظر عن اللون السياسي الذي تعلن عنه، يسارية كانت أم يمينية أم دينية خالصة. 

لكنها ورغم هذا الاختلاف السياسي، تتوحّد فيما بينها، في مواجهة كل ما يهدّدها من الخارج. وهو ما يبرز  أن هذه التعددية الصهيونية، لها هدف واحد يجمعها، يتجلى في تحقيق الصهيونية.

رؤساء أميركا والصهيونية

بحسب المؤرخ، "توضح هذه الصهيونية المسيحية في جزء كبير منها، مساندة الرؤساء الأميركيين لإسرائيل في كل الأحوال والظروف"

 وشرح في فصول عدّة، كيف أن هذه المساندة، تساعد إسرائيل على الاستمرار في خططها على الأرض، مع اتباع "سياسة ازدواجية المعايير"، التي تسلكُها أيضا أميركا، ومعها الدول الغربية، حين يلزم الأمر تقديم الدعم لها؛ ثم اتباع استراتيجية "فرض الأمر الواقع". 

لقد تمّم كل هذه السياسات، وركّزها برأي المؤرخ، وجود ما أسماه "التعددية القتالية"، التي يعود مصدرها إلى العنف الذي ارتبط بإنشاء دولة إسرائيل. وهو عنف يتوسّع في تفاصيلِه الكاتب، من خلال الإشارة إلى المنظمات الإسرائيلية المختلفة، مثل الهاجاناه وغيرها، المتّصلة باكتساب الأراضي وتثبيت هوية جديدة.

ضعف الحركة الفلسطينية: وهم التضامن العربي

يوازي في نظر المؤرّخ، وجود تعددية صهيونية، تعددية داخل الحركة الوطنية الفلسطينية. وعوض أن تساعد على الانتصار، ساهمت في مرارة الهزيمة التاريخية التي طالتها.

يعود السبب بحسب فيليو إلى عوامل عدّة، منها ما سمّاه "الوهم العربي" الذي خصّص له فصلاً كاملاً. إذ استخدمت الأنظمة العربية المختلفة برأيه القضية الفلسطينية لمآرب خاصة أكثر منها لمساندتها.

 ثانياً، عدم تحقيق الوحدة بين مكوّنات المقاومة، والتنافس المستمر بينها منذ عام 1948، فضلاً عن كونها حركة أنشئت خارج الأرض الأصلية، بعيدة عن الاطلاع بشكل كامل ودقيق على الواقع الميداني، ما أدى إلى الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت بها، وأصابت القضية بشروخ كثيرة.

المسؤولية الدولية والتوحّش العالمي

لكن المؤرّخ لا ينسى بعد سرد هذه العوامل، أن يذكر عاملاً مؤثراً وحاسماً، هو المسؤولية الدولية في ما آلت إليه الأمور. وقام بنقد لاذع للفشل الذي وقع فيه المجتمع الدولي عبر منظماته المختلفة، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة في فرض حل سلمي عادل.

هذا المجتمع الذي يعتمد التحالفات السياسية والإيديولوجية والمصلحية في فك النزاعات الدولية، مما يُؤخرها ويؤجلها ويديمها، عوض حلها. ويأتي على رأسها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الممتد منذ قرن من الزمن. وهو صراع ذو طبيعة خاصة، أثّر بعمق في كل صراعات العالم.

يقول الكاتب في مقدمته التي تحمل عنوان "هزيمة من دون منتصر": "إن استمرار الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، ساهم بشكل كبير في تحوّل العالم الحالي نحو الوحشية، وعسكرة العلاقات الدولية، وغرق الأمم المتحدة، التي شلّتها الولايات المتحدة لصالح إسرائيل على مدى عقود، قبل أن تشلّها روسيا في سوريا، والآن في أوكرانيا".

يضيف: "أن نفهم كيف ضاعت فلسطين، ولماذا لم تنتصر إسرائيل، يشكّل جزءاً من تفكير مفتوح حول مستقبل هذه الألفية الجديدة".

وانطلاقاً من هذا البعد العالمي وطبيعة العلاقات الدولية، يُؤكد المؤرّخ الفرنسي أخيراً، بأنه صراع على تملّك الأرض، ولا علاقة له بصدام الحضارات، كما يودّ بعض المنظّرين تحويره. 

ويؤكد أنه لا بد من التفكير في وضع حل مُلزم، وعدم الاعتماد على محكيات أي من طرفي الصراعِ، بتوخي العدالة والإنصاف، خاصة للطرف الأضعف، أو الذي يتمّ إضعافه باستمرار. 

يرى المؤرّخ بأنه لا ينبغي إظهار مشاعر المفاجأة بخصوص ما يجري منذ السابع من أكتوبر، "فكل المشاعر مشروعة أمام الفظائع التي ارتُكبت [...] مثل الدهشة والغضب واليأس والرعب والاكتئاب، باستثناء المفاجأة".

تصنيفات

قصص قد تهمك