الحمّام التقليدي في المغرب.. ثقافة التواصل والتطهير

حمّام تقليدي مغربي يعود لعام 1562 - hammammouassine.ma
حمّام تقليدي مغربي يعود لعام 1562 - hammammouassine.ma
مراكش -علي عباس

في المغرب، إذا كنتَ عائداً من السفر، فاذهب إلى الحمّام التقليدي، وإذا كنت مهموماً، أو سعيداً، أو باحثاً عن الحلول، فاذهب إلى الحمّام التقليدي، وإذا أردت أن تراجع نفسك وتتفحصها، فاذهب أيضاً إلى ذلك المكان، ستجد هناك ذاتك في ولادة جديدة وفي مزاجٍ رائق.

الحمّام الشعبي في المغرب، يعني التطهير، وتحسين وظائف الجسد، والترويح عن النفس، فلا عجب أن  يسمّي المغاربة فاتورة الماء والكهرباء "الماء بالتطهير"، علماً أن الشركة المُسيّرة للخدمات هي أجنبية، لكنها خضعت للسوسيولوجيا المغربية وهي الماء- التطهير.

يرتبط المغاربة، بشكل مباشر نفسياً وروحياً بالحمّام، ويكاد يكون حلاً من الحلول، وعيادة صحّية عوض كرسي الطبيب النفسي، فضلاً عن (التجميل) في حالة النساء، فأين تجد تلك المصحّة- الحمّام، الذي يذهب إليه المرء من تلقاء نفسه، من دون حرج أو تردّد، لقاء أجور زهيدة. إنه علاج شخصي حيث تعالج النفس ذاتها.

حمّام تقليدي في مراكش
حمّام تقليدي في مراكش - hammammouassine.ma

 يُعدّ الحمّام الشعبي المغربي تقليداً اجتماعياً ثقافياً، وجزءاً أساسياً من الحياة اليومية للمغاربة، ذا أصول تاريخية، تعاقبت عليه الحضارتين الرومانية والإسلامية لقرون خلت، ثمّ ترسخت هويته الوطنية ابتداءً من  العصر المرابطي والموحدي والمريني، إذ ازدهر بناء الحمّامات الشعبية وتنوّعت أنماطه المعمارية، بطرق هندسية رائعة.

تداخلت التصاميم وتلاقحت ما بين الثقافة والدين والتراث، خصوصاً في مدن  فاس ومراكش، في مشهد حضاري نقل المغرب إلى الواجهة الاجتماعية العربية والأوروبية. هكذا، نرى الحمّام المغربي في باريس ودبي وإسطنبول.

من الثقافة الرومانية إلى الإسلامية

يستعرض الباحثان ماجدا سبيلي، وإيان جاكسون في "عمارة الحمّامات العامة الإسلامية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط: تحليل التكوينات الداخلية لها" (2012)، كيف تطوّرت الحمّامات من العصور الرومانية، كحمّامات "كاراكالا" في إيطاليا مثلاً، ذات الغرف المركزية الواسعة، والأسقف العالية، والجدران المزيّنة، إلى الحمّامات في الفترة الإسلامية، وهي أكثر تواضعاً وفعالية.

الفارق الأهم ما بينهما، هو أن الحمّامات الإسلامية، تتناسب بشكل أكبر مع الأحياء السكنية، من خلال تصميم  يشمل النسيج الاجتماعي قاطبة. إنه مكان عمومي لا يقتصر على النخبة، بل يضمن المساواة الاجتماعية، إذ يذهب إليه الفقير والغني سواسية ضدّاً، من التفاوت الطبقي والتمايز الاجتماعي.

بُنيت الحمّامات قديماً بجانب الجوامع، لغرض الوضوء والاستعداد للصلاة، ثم انتقلت إلى أماكن أخرى متجاوزة مسألة النظافة فحسب، بل هي طقوس اجتماعية ودينية وثقافية، علاوة عن كونها فرصاً للتواصل الاجتماعي، وتعزيزاً للروابط الأسرية، والاندماج في المجتمع، والاسترخاء الجسدي والنفسي. 

حافظ المغرب على الحمّام، تشجيعاً للتقاليد وللسياحة معاً، مقارنة بالدول العربية التي يكاد ينحسر الحمّام التقليدي فيها. لكن لماذا يذهب المغربي (ة) إلى الحمّام بشكل دوري، وكأنه من طقوس الحياة اليومية؟

تقول السيدة خديجة العمراني: "نذهب إلى الحمام أسبوعياً لغاية التطهير وإراحة الجسد والتخلّص من الإعياء، فضلاً عن إقامة الطقوس التقليدية مثل استعدادات الزفاف أو الاحتفال بالمناسبات والخطوبة والولادة، بهدف تطوير شبكات اجتماعية".

 وتؤكد أن "الحمّام هو  نقطة اتصال ما بين الأجيال، حيث يتم نقل التقاليد والعادات، ما يعزّز الروابط الاجتماعية والعائلية، ويعكس ديناميات المجتمع والنسوية فيه. كما تذهب المرأة قبل زواجها إلى الحمام مع صديقاتها من أجل تزيينها وعمل وشم الحناء".

وتشرح العمراني أن "العائلة تسير مجتمعة في بعض المدن الصغيرة، أو مجموعة نساء، وغالباً ما نُشاهد المرأة، وهي تحمل عدّة الحمام، كالدلو والطاسة والمشط، والصابون البلدي والغسول، وأحياناً نجلب معنا الأكل والشراب، للّقاء وتداول الأخبار وقصّ الحكايات بما يسمّى التراث اللامادي". 

بناء معماري فريد

يعتمد بناء الحمّامات التقليدية على استخدام مواد محلية، مثل الجص والطين المطلي أو ما يُعرف بـ "تدلاكت"، وهو طين مغربي مضغوط بشكل خاص مقاوم للماء، يُستخدم بشكل شائع لتغطية جدران وأرضيات الحمامات. تُزيّن الجدران بزخارف ونقوش هندسية، باستخدام قطع "الزليج" السيراميك.

 يتميّز هذا الفن الزخرفي بالتكرار الهندسي والتناظر، ما يعكس التناغم والتناسق. تلعب القباب والمنحنيات دوراً في توزيع البخار والحرارة، ودخول ضوء الشمس من فتحاتها في الأعلى.

 تذكر الكاتبة إليزابيث ويليامز، في مقالها عن "الحمّامات وثقافة الاستحمام في الشرق الأوسط": "تتميّز الحمّامات الإسلامية، مثل حمّامات دمشق والأردن، بتصميمات معمارية تشتمل على زخارف معقّدة وجدران مغطاة بالرسوم، وهناك التصميمات الأكثر تعقيداً من حيث التوزيع الداخلي للغرف، مقارنة بنظيراتها الرومانية".

يتكوّن الحمّام الشعبي المغربي من غرف عدةّ متصلة ببعضها، من الغرفة الباردة إلى الدافئة ثم الساخنة، التي تحتوي على البخار، حيث يتعرّق المُستحمّ، وتنفتح مسام جلده مستعيناً بحسب رغبته بـالذين يقومون بالتدليك وترويض الجسد، بواسطة "كيس" خشن لإزالة ما علق في الجسد من مخلفات اليوم، وهكذا، مع البخار والتدليك والترويض، يشعر المرء بولادة جديدة.

لا يزال الحمّام المغربي، يحظى بشعبية كبيرة، محافظاً على دوره التقليدي في الحياة اليومية والطقوس الاجتماعية المغربية. كما أصبح يُشكّل جزءاً من الجذب السياحي، حيث يزور السياح الحمّامات لاختبار هذه التجربة التقليدية. انتشرت أخيراً الحمامات التركية و"السبا"، في مدينة مراكش.

تجربة عابرة للثقافات

كما هي عادة المغرب في جذب السياح الأجانب والعرب نحو تراثه وتقاليده التي هي مصدر تقدير؛ فلم يتوان الأجانب عن التعبير عن انبهارهم بالحمّام التقليدي المغربي، الذي يداومون بالذهاب إليه في الفنادق، وفي الحمّامات الخاصة، ولا يذهبون إلى الحمام الشعبي حيث عامّة الناس. 

قام باحثون أجانب بتوثيق الحمّام في المغرب عبر دراسات متنوّعة منها، "الحمّامات المغربية: دراسة عن التقاليد والطقوس"، و"حمّامات المغرب: فضاءات الطهارة والاجتماعية".

 هناك عدد من الكُتّاب الأجانب والرحّالة الذين كتبوا تجاربهم الشخصية، موضحين الطقوس والتجربة الثقافية الفريدة، من أمثال إليزابيث بيرجين، وريتشارد فيلوكس، ودانا ماكالستر.

أما الكاتبة ليزا فينيسي، فكتبت عن تجربتها الشخصية وشعورها بالاستمتاع بالطقوس المغربية الأصيلة قائلة: "لا يقتصر الحمام على التنظيف الجسدي فحسب، بل هو تجربة شاملة للجسم والعقل والروح. كانت تجربتي فريدة ومنعشة، غيّرت نظرتي تجاه مفهوم الاستحمام والعناية الذاتية".

أنثروبولوجيا الحمام التقليدي 

 يتحدث أستاذ الأنثربولوجيا في جامعة القاضي عياض، محمد فخر الدين عن "الماء التطهيري وعلاقته المهمة بالمقدّس، الذي يتجلى في مظاهر مختلفة قرب المزارات والأضرحة، وفي الثقافات الفردوسية عبر العالم".

يقول: "يوجد الماء المقدّس عادةً قرب المزارات والأضرحة بالضرورة، مؤثّثاً أساسياً، حيث لا يمكن تخيّل فضاء مقدّس من دون الماء السحري الذي يحوّل وينقل من حال إلى حال، أي من عدم التطهير إلى المطهّر، ومن الدنيوي إلى المقدّس".

يضيف: "الماء السحري موجود في الحكايات والطقوس والاعتقادات منذ القِدم، باعتباره فاعلاً أساسياً في طقوس العبور"، ويمكن اعتبار طقوس استعمال الماء في الحمامات التقليدية بديلاً متحضراً ومعاصراً للطقوس الأسطورية القديمة، التي تعتمد التطهير بالماء. 

في ما يتعلّق  بالطقوس المغربية يرى فخر الدين، أن "طقوس ليلة الحمّام التقليدي المغربية التي تمضي إليها العروس بالشموع المضيئة مع مرافقاتها قبل زواجها، لها علاقة بطقس العبور الخاص بالمرأة، أي الانتقال من وضعية الفتاة إلى وضعية الزوجة والأم. ويحتلّ الحمّام التقليدي كفضاء لهذا العبور دوراً أساسياً من خلال طقوس الاغتسال، الذي يمثل فيها الماء السحري القادر على البعث، دوراً رمزياً مهماً".

يمكن القول إن فضاء الحمّام، هو استمرار أنثروبولوجي للمزارات المائية والعيون، التي تكون قرب الأضرحة، التي لها وظيفة التطهير والتعميد، كما في الطقوس المسيحية  التي يتم فيها التعميد والتطهير بالماء المقدّس.

تصنيفات

قصص قد تهمك