حتى نهاية القرن العشرين، لم يكن كثيرون يعرفون، أن المستشار في وزارة الصناعة الحزائرية بوعلام صنصال، يملك ميولاً أدبية، وقد عومل عند صدور روايته الأولى باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى العربية "قسم البرابرة"، على أنه كاتب جديد، بالرغم من كونه من مواليد عام 1949.
صاحب رواية "الحي الألماني" أراد أن يعزّز حضوره الأدبي بجملة من المواقف السياسية التي لفتت الانتباه إليه، ووضعته في مهبّ الشهرة في الجزائر، بصفته "كاتباً مزعجاً"، وفي فرنسا بصفته كاتباً "حراً وشجاعاً".
اختصار المسافة
من تلك المواقف، زيارته إلى إسرائيل عام 2012، تزامناً مع الذكرى الرابعة والستين ليوم الأرض في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل في الوقت نفسه، وظهوره بالقلنسوة اليهودية أمام حائط المبكى، علماً أن القوانين الجزائرية تمنع على مواطنيها أي تعامل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وصف صنصال حينها "فعل المقاومة ضدّ الاحتلال بكونه فعلاً إرهابياً"، وظل يردّد ذلك لاحقاً، حيث لمع اسمه أكثر، بحصوله على جوائز وازنة داخل فرنسا، مثل جائزة الفرنكوفونية، وخارجها مثل جائزة "السلام لتجارة الكتب" في ألمانيا.
رصاصة بوجدرة
لم يعجب هذا المسار الروائي رشيد بوجدرة، فأدرج بوعلام صنصال، ضمن كتابه الصادر عام 2018 بعنوان "زناة التاريخ"، ويقصد بهم "أولئك الذين يتقرّبون إلى المركزية الفرنسية، بتزوير تاريخ الجزائر، واعتبار ثورة التحرير حركة عنيفة، واعتبار الثقافة العربية والحضارة الإسلامية تخلّفاً، ويصطفون في كل أزمة بين بلادهم وفرنسا، إلى جانب هذه الأخيرة".
توقيف الكاتب
ليس غريباً عن صنصال أن يصرّح لوسائل الإعلام الفرنسية، بما يزعج الجزائر حكومياً وشعبياً، لكنه لم يقابَل بالصمت الجزائري المعتاد، بعد أن صرّح في برنامج تلفزيوني، "أن الغرب الجزائري، ومنه مدن وهران وتلمسان ومعسكر، هو مغربي في الأصل، وأن فرنسا احتلت الجزائر لأنها لم تكن دولة قائمة، عكس دولة المغرب الممتدة على مدار 12 قرناً، حيث لم تستطع فرنسا أن تتواجد فيها خارج اتفاقية الحماية".
أدى هذا التصريح، إلى توقيفه من قِبل السلطات الجزائرية، منتصف شهر نوفمبر، ما إن وطأت قدماه أرض المطار، وظلّ الخبر في حكم الشائعة لأيام، بين روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن أكدته وكالة الانباء الجزائرية، في جملة خاطفة، ضمن مقال أطلق على صاحب رواية "حراقة" كل صفات الإدانة والتخوين.
"خيانة بحق الوطن"
سألت "الشرق" مصدراً حكومياً جزائرياً، رفض الكشف عن هويته عن خلفية الاعتقال، فقال "إن بوصنصال وقع تحت طائلة المادة 87 من قانون العقوبات، التي تجرّم أفعال الخيانة في حق الوطن".
أضاف: "لم يبد رأياً سياسياً يمكن إدراجه ضمن حرية التعبير، بل مسّ بوحدة التراب الوطني، فلا حصانة له بهذا، حتى وإن كان كاتباً حائزاً على كل جوائز العالم".
وسأل المصدر: "هل كانت فرنسا ستتساهل معه لو قال إن إحدى مقاطعاتها ليست ملكها؟ إنها تسجن مواطنيها فقط لأنهم يرتدون الكوفية الفلسطينية، فلا داعي لأن تحدثنا عن احترام حرية التعبير".
من جهته، قال المحامي الفرنسي للكاتب المعتقل فرنسوا زيمراي الذي سبق له أن كان سفيراً في الدنمارك، وعيّنته دار غاليمار التي تنشر لصنصال منذ ربع قرن، في بيان له، "إن اعتقال كاتب هو انتهاك للحريات الشخصية، وإننا سنحرص على ضمان محاكمة عادلة له".
حرب المواقف
وكانت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية، أكدت أن صنصال "اعتقل في الجزائر العاصمة لدى وصوله من باريس في 16 نوفمبر".
ولئن كانت مساندة صنصال محتشمة في الداخل الجزائري، بالنظر إلى حساسية الجزائريين مما يتعرّض لوحدتهم الترابية، التي يقولون إنها ثمرة لدماء مئات الآلاف من الشهداء، فإن مساندته في المشهد الفرنسي، بقيت تتصاعد منذ اليوم الأول لاعتقاله الغامض، حتى وصلت إلى قصر الإليزيه، إذ ذكر وزير الداخلية الفرنسي، أن الرئيس إيمانويل ماكرون "قلق جداً بخصوص حالة بوعلام صنصال، وسيتدخّل لأجل إطلاق سراحه".
مطالبة بتحرير الكاتب
وبمناسبة مثول الكاتب، أمام النيابة العامة، الثلاثاء، وقّع كُتّاب ومثقفون ونشطاء فرنسيون وجزائريون مقيمون في فرنسا بياناً، طالبوا فيه بتحرير الكاتب فوراً، منهم الفيلسوف ميشال أونفري، والمغنّي فرحات مهني، الذي يرأس منظمة انفصالية.
وكتب الروائي والناشط السياسي عبد العزيز غرمول: "قلت مراراً إن معركة الشعوب الحديثة هي معركة ثقافية بالدرجة الأولى، تقودها النخب بطريقة ناعمة ومفيدة، وإن محاربة الرأي المعادي يجب أن تتم بالرأي، وليس بالسلاح التقليدي ولا بالسجن، لأن الكتب تحترق - كما قال ابن رشد - ولكن الأفكار تطير في الآفاق".
أما الكاتب والناشر والمترجم إبراهيم تازاغارت، فرأى أن بوعلام صنصال "حرّ في قول ما يريد، تحت عباءة الاستعمار الجديد، وأقواله والمواقف المناهضة أو الداعمة له سترفع الغطاء عن الانتماءات الوطنية والفكرية والسياسية، وتظهر الجميع على حقيقتهم".
وأكد "أن الكرة في مرمى النخبة الوطنية، ليس بالشعارات الجوفاء، ولكن بالانتاج الفكري والأدبي، الذى يرفع من قيمة وطن رسمت حدوده بالدم والعَرَق".