هي أول سيرة ذاتية لحبرٍ أعظم، يتم نشرها وهو لا يزال على قيد الحياة. صدرت منتصف يناير 2025، في أكثر من مئة بلد، وبلغات عدّة، من قِبل دور نشر عالمية.
يضمّ كتاب "الأمل" الصادر عن دار "ألبين ميشل" الفرنسية، 25 فصلاً، كتبها البابا فرنسيس بمساعدة ناشره كارلو روسو. وقبيل صدورها، كان السؤال الأبرز، هل ستكون السيرة على شاكلة الاعترافات الشهيرة للقديس أغوستين، أحد آباء الكنيسة الكبار، الأولى من نوعها في التاريخ، أم هي سيرة روحية وعظية، تحمل توجيهات البابا حول العصر وأحداثه؟
تمهيد ملفت كتبه البابا في مقدمة الكتاب: "السيرة الذاتية ليست قصتنا الخاصة، بل هي الأمتعة التي نحملها معنا. والذاكرة ليست فقط ما نتذكره، بل ما يحيط بنا. إنها لا تتحدث فقط عما كان، بل عما سيكون. الذاكرة، بكلمات شاعر مكسيكي، هي الحاضر الذي لا يتوقف عن المرور".
روزا التي علمته الشعر
من هذه الذاكرة، استنبط خورخي ماريو بيرغوليو، وهو الاسم الشخصي للبابا، في النصف الأوّل من الكتاب، وصفاً شيّقاً لحياته في بداياتها، كابن لمهاجرَين إيطاليين من منطقة بيومنت، نزحوا مع مئات الآلاف باتجاه الأرجنتين، بحثاً عن حياة أفضل، وعُهد بممتلكات عائلته إلى جدته.
يكتب البابا: "كانت جدتي روزا لا تزال ترتدي المعطف الأنيق الذي غادرت به، على الرغم من الحرارة الرطبة [...] وخاطت بداخله كل ما كانوا يملكونه من أشياء ثمينة، بين البطانة الجلدية والحرير. واصلت ارتداءه تقريباً كأنه زيّ رسمي، حتى بعد مغادرتهم السفينة، وهم يواصلون رحلتهم إلى الداخل".
أجبرت روزا الجدّة البابا الصغير، على حفظ قصائد الشاعر نينو كوستا باللهجة البيمونتية، فضمّن أحد أبياتها حول المهاجرين الإيطاليين في تصدير الكتاب. لذا كان طبيعياً أن تكون الهجرة أحد المسائل التي يعيرها البابا اهتماماً كبيراً.
حين بلغه خبر غرق سفينة للمهاجرين عند شاطئ لامبيدوزا، جنوب إيطاليا، شعر به "كالشوكة المؤلمة في قلبه". يقول: "أنا ولدت أيضاً في عائلة من المهاجرين، عرفوا مصير الناس الذين يُتركون من دون شيء. كان بالإمكان أن أكون من بين المنبوذين اليوم، لذا فإن سؤالاً واحداً يلازمني في قلبي: لماذا هم وليس أنا؟"
بين الحب والتانغو
أسئلة شخصية تحمل تأنيباً للضمير، لا يفتأ يذكرها البابا إلى جانب أحداث أخرى مفرحة وعادية، وهو يتحدث عن طفولته في حي فلوريس، الذي تقطن فيه أعراق وديانات مختلفة، كما يتحدث عن عشقه لكرة القدم والقراءة والسينما، وقصته وهو مراهق مسكون بالرغبة في الارتباط بالكنيسة، لكنه مع ذلك يرقص التانغو مع فتاة.
وقائع ستحدّد خياراته في المستقبل، لكن ما سيؤثر فيه بشكل أعمق، هو ما يعتبره أخطاء ارتكبها. على غرار حكاية المرأة التي كانت تساعد والدته في الأعمال المنزلية. وحين جاءت لزيارته، عندما أصبح رئيساً لإحدى الجامعات اليسوعية، لم يستقبلها بسبب كثرة انشغالاته، فسبّب له ذلك ندماً شديداً.
ثم حكاية درّاجة أعارها لطالب فقير أعادها له مكسورة، فطالبه بإصلاحها. وأحسّ بعدها بذنب كبير لازمه طويلاً، ولم يستطع التحرر منه إلا بالاعتذار له. وقال أمام الرهبان الحاضرين بعد أن جرى انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية سنة 2013، كأول بابا يسوعي ومن أميركا اللاتينية: "أنا خطّاء كبير، لكني أرضخ، واثقاً من رحمة الله وصبره".
ذكريات ومواقف
ربما ذلك ما جعله يحكي مواقف حدثت له في أوّل عهده بالرهبنة سنة 1969، وخصوصاً في الأحياء الفقيرة في عاصمة الأرجنتين بوينس آيرس، "حيث يعيش أولئك الذين تهمّشهم اقتصاديات قاتلة".
ومعروف عن هؤلاء أنهم يعيشون في المنازل الصفيحية، ويقعون ضحايا الدعارة والمخدرات والتهميش وغياب الدولة. حكايات مليئة بالحزن وأيضاً بالأمل في النجاة والخلاص الروحي، وتأكيد على دور الإيمان في الخلاص والتقدّم.
يُستشفّ من السيرة الذاتية للبابا، المزاوجة بين هذين المنحيين: الرعاية الدينية من جهة، والعمل على التأثير إيجاباً بالناس وبأحداث العالم الكبرى. هذا المنحى الأخير، هو الذي استرعى انتباه الكثير من الأقلام في الصحف العالمية، التي بحثت عن مواقف قوية من لدن البابا، بخصوص العديد من القضايا الخلافية الكبرى، كأزمة المناخ والتطوّرات التكنولوجية والتسلح والحروب، ودور الدين في المجتمعات.
عولمة اللامبالاة
في هذا الإطار، أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية، إلى تنديد البابا بما وصفه بـ "عولمة اللامبالاة"، واقتناعه بأن السلام لا يأتي عبر بناء الجدران العالية بين الشعوب. كما اهتمت أقلام أخرى بالتعرّف على مواقف الكنيسة في عهده من النزاعات المسلحة، في أكثر من بقعة على الكرة الأرضية، وآرائه حيالها.
هذه الأخيرة استحوذت على فقرات طويلة، دعا فيها إلى "نبذ الحرب لأنها لا عقلانية، فهي لا تشرّع أي أفق، ولا تحلّ أي مشكلة، بل تعقّدها وتجعلها أسوأ". كما يدعو إلى "الاحتكام لمبادئ العقل، أي الحقيقة والعدالة والتعاون القوي".
العراق والموصل في وجدانه
من بين الفقرات الأبرز في السيرة، التي توقفت عندها صحيفة "الفاتيكان نيوز"، وعدد من المنابر الإعلامية، ما ورد عن زيارته للعراق في مارس 2021.
وصف البابا الموصل بأنها "إحدى أقدم مدن العالم، زاخرة بالتاريخ والتقاليد، وشهدت تعاقب حضارات مختلفة عبر الزمن، وكانت رمزاً للتعايش السلمي بين ثقافات متعددة داخل بلد واحد، عرب وأكراد وأرمن وتركمان ومسيحيين وسريان، لكنها بدت أمامي كأنها امتداد من الأنقاض [..] صورة بالأشعة السينية للكراهية، ثمرة الحرب المسمومة."
هذه العبارة الأخيرة قصد بها محاولتَي اغتيال كانتا تستهدفانه وتمّ إحباطهما. ولم يخفّف من حدّة شعوره بالحزن جراء ذلك، سوى لقائه بالسيد علي السيستاني في منزله بالنجف، وكتب في هذا الصدد: "إنه تصرّف يحمل في الشرق دلالة أعمق من التصريحات والوثائق، لأنه يعبّر عن الصداقة والانتماء إلى العائلة نفسها. لقد منحني ذلك راحة للروح، وجعلني أشعر بالتقدير".
لقاؤه مع الكاتب العالمي بورخيس
وفضلاً عن الإشارة إلى مشكلات الغرب المجتمعية، والصراعات الدموية العالمية المتعددة، يُظهر كتاب "الأمل"، بالنسبة لقارئ غير مسيحي، وجهاً جامعاً يوحّد الرؤى من خلال سرديته الأدبية الخاصة، بمحكياته المتعددة. ومن بينها حكاية لقائه مع كاتب الأرجنتين العالمي، خورخي لويس بورخيس، الذي اعتبره موقع إذاعة "بي بي سي"، فصلاً مهماً جديراً بالذكر.
كان البابا مدرّساً شاباً للأدب في "سانتا في"، حين دعا الكاتب الشهير لإعطاء دروس حول ما يُعرف في الأرجنتين بـ"أدب الغاوتشو" (أدب رعاة البقر الأرجنتينيين).
وصف البابا شخصية الكاتب قائلاً: "كان قادراً على التحدث عن أي شيء، ولم يكن متكبّراً أبداً. كان يبلغ آنذاك السادسة والستين من عمره، ومع ذلك، استقلّ حافلة، وقام برحلة مدتها ثماني ساعات من بوينس آيرس، ليلتحق بنا في سانتا في".
يُفاجأ القارئ بهذا الجانب الإنساني العميق والحيوي للبابا فرانسوا، البعيد عن الاحتفالية المعهودة التي نشاهدها في العالم أجمع لدى كل ظهور رسمي له، في الفاتيكان أو في تنقلاته. وتلك ميزة الكتاب الكبرى.