"مذكرات نشال".. سيرة طائفة في قاهرة العشرينيات

كتاب "مذكرات نشّال" - Dardawen.com
كتاب "مذكرات نشّال" - Dardawen.com
القاهرة-سها محمد

في عالم النشر، يعتبر صدور المذكرات والسير الذاتية للمشاهير، من سياسيين وفنانين وكُتّاب، أمراً مألوفاً، فحياة هذه الشخصيات مليئة بالمواقف والقصص التي تجذب القرّاء، إلا أن حياة المهمّشين، قد تكون أيضاً مليئة بالدراما والتفاصيل الإنسانية، التي لا تقلّ إثارة عن حياة المشاهير؛ ما يجعل مذكراتهم تحظى بالاهتمام، وتُدخلهم إلى عوالم مختلفة وتجارب لا تخطر لهم.

خلال شهر رمضان، استطاع مسلسل "النُص" للنجم أحمد أمين، والمأخوذ عن كتاب "مذكرات نشّال للمعلم عبد العزيز النُص"،  الصادر عن (دار دوّن)، أن يجذب الانتباه إلى عالم أدب المهمّشين، الذي انتشر في عشرينيات القرن الماضي.

وكان سبق وقدّم أحد نماذج هذا الفن، الكاتب الكبير صلاح عيسى في "مذكرات فتوة"، التي أعاد فيها قراءة مذكرات فتوة للمعلم أبو الحجاج يوسف، ونُشرت طبعتها الأولى عام 1926، وكتبها الصحفي حسني يوسف، صاحب الجريدة الأدبية الأسبوعية "لسان الشعب".

كتاب 'مذكرات نشّال'
كتاب 'مذكرات نشّال' - الشرق

يوسف نفسه هو الصحفي الذي كتب "مذكرات نشّال"، الصادرة في عشرينيات القرن الماضي، وأعاد الباحث أيمن عثمان، تقديمها في كتاب "مذكرات نشّال للمعلم عبد العزيز النُص"، وهو كتاب يمكن اعتباره وثيقة تاريخية عن الحياة اليومية، وتفاصيل العلاقات الاجتماعية، واللغة العامية الدارجة في مصر في عشرينيات القرن الماضي.

انقسم كتاب "مذكرات نشّال" إلى أربعة أقسام، بدأها الكاتب بمقدمة ذكر فيها المصادفة التي قادته للعثور على مذكرات نشّال، والبحث في الأرشيف الصحفي المصري في عشرينيات القرن الماضي.

اكتشف المكانة الكبيرة التي احتلتها حياة الطوائف الشعبية والمهمّشين في أدب المذكرات، ونموذج النشر المتبع وقتها- كما حدث في مذكرات نشّال-  حيث تُنشر فقرات من المذكرات في إعلان تشويقي، وبُطلب من القرّاء الراغبين في نسخة، إرسال 6 طوابع من فئة الخمسة مليمات بالبريد، ما يعني أن عدد النسخ المطبوعة كان يحدّدها القرّاء، وتحصيل كلفة الطباعة كان تتم مسبقاً، وهي الطريقة التي بقيت سائدة في عالم النشر، حتى ثلاثينيات القرن الماضي.

مسلسل 'النُص' المأخوذ عن كتاب 'مذكرات نشّال'
مسلسل 'النُص' المأخوذ عن كتاب 'مذكرات نشّال' - الشرق

ويُدخل الكاتب القرّاء إلى عالم النشل؛ المهنة التي يتعلمها الشخص في الصغر؛ لهذا انتشرت مدارس لتعليم النشل للنشء في الأحياء الشعبية، التي غالباً ما يُديرها نشّال سابق، اعتزل المهنة بسبب تقدّمه في السن.

كان "النشّال المتقاعد" يجمع الأطفال المشرّدين، ويُعلمهم أصول المهنة على مراحل، تبدأ بتعليم سرقة الغسيل من الشرفات، والتدريب على خفّة اليد، عبر التقاط قطعة صغيرة من الورق عائمة، من دون أن تبتل الأصابع، وقطع الجيوب بأمواس الحلاقة، وتنتهي بالخروج إلى الشارع والنشل في الترام والأماكن العامة، وخصوصاً الأسواق المزدحمة. 

وبحسب كتاب "مذكرات نشّال"، هناك مدارس وأساليب للنشل، أشهرها "الطريقة الأمريكانية"، التي تعتبر الأكثر ذكاءً؛ إذ يلعب فيها النشّال على الغريزة الإنسانية للضحية، للحصول على مكسب سريع، ويظهر النشّال كما لو كان مغلوباً على أمره، حتى تكتمل اللعبة ويخدع ضحيته.

المعلم عبد العزيز النُص

يقدّم الجزء الثاني من الكتاب نصّ  على لسان عبد العزيز النُص، وباللهجة العامية المصرية، ما يمنح المذكرات المصداقية، ويُدخل القرّاء إلى عالم عبد العزيز النُص ومصطلحاته. 

يتّضح من خلال الصفحات الأولى، أن نجاح مذكرات فتوة التي كتبها حسني يوسف، وحقّقت شعبية كبيرة في ذلك الوقت، ساهمت في زيادة نفوذ المعلم أبو الحجاج يوسف، صاحب المذكرات، ما جعل عبد العزيز النُص، يتواصل مع نفس الصحفي ليكتب قصّة حياته، التي يجدها تستحق أن تُروى، وخصوصاً بعد أن توقف عن النشل. 

يحكي عبد العزيز النُص عن طفولته وحب والده له، وحرصه على تعليمه، لأنه ابنه الوحيد، لكنه لم يحب التعليم، وكان يهرب من المدرسة حتى تعرف على نشّال، وتعلم منه المهنة التي دخل عالمها وأحبها،  وهو يقول في مذكراته: "ما تفتكريش إني كنت أمشي المشي ده علشان إني كنت محتاج، أبداً. أنا كنت غاوي بس".  

وعلى الرغم من أنه أصبح نشّالاً محترفاً، وذاع صيته وسط طائفة النشّالين بسبب براعته، لكنه قرر التوبة والعمل في التجارة، وخصوصاً بعد زواجه، لكن الكساد الاقتصادي المصاحب للحرب العالمية الأولى، أدى إلى توقف تجارته وتراكم الديون عليه، فاضطر للعودة إلى عالم النشل، ولكن هذه المرّة كان معه مساعده وابن صديقه، فشكّلا ثنائياً للنشل بالطرق التقليدية، إلى جانب الأداء التمثيلي أو ما يطلق عليه "الطريقة الأمريكانية"، وتكون فيها الضحية شخصية ثرية. 

مذكرات عبد العزيز النُص، التي تنتهي بتوبته وعودته إلى عالم التجارة، تكشف عن ثراء اللغة العامية المصرية، وقدرتها على "الحكي" الأدبي، وبلاغة الكثير من المصطلحات الشعبية التي بطل استخدامها، وأظهرت تفاصيل الحياة اليومية لطبقة المهمّشين في مصر، وتأثرهم بشكل كبير بغلاء الأسعار خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن الإضرابات العمالية التي كانت غالباً ما تنتهي بإنهاء عمل قادة الاحتجاجات.

كما تكشف أيضاً عن أماكن الحركة التجارية في أحياء الغورية والعتبة الخضراء، والمحلات الشهيرة حينها، مثل الماردوي وشيكوريل، وكيف أن كلا منهما يخاطب طبقة اجتماعية، وبأسعار مختلفة، تبدأ من القروش إلى الجنيهات.

تُظهر المذكرات المظهر العام للطبقات الاجتماعية؛ فعبد العزيز يرتدي الجلباب البلدي والقفطان، بينما الموظفين "الأفندية" يرتدون البدلات، ويحملون المحافظ الجلدية الصغيرة، والقادمين من الأرياف من العُمد يحملون أكياساً كبيرة من قماش التيل الأسمر، ويصاحبهم خدم لحمل أغراضهم، بينما السيدات في الطبقات الشعبية ترتدي "الملاية اللف"، وبرقعاً يغطي جزءاً من وجهها.

كما تكشف المذكرات، عن العادات الاجتماعية المرتبطة بالأثرياء، وتفضيلهم الإقامة خلال شهور الصيف في مدن مثل رأس البر وأبو قير والإسكندرية. 

أرشيف النشل 

⁠‫خصّص الكاتب الجزء الثالث للإشارة إلى بعض التحقيقات التي نُشرت في الصحافة المصرية حول النشل، والذي يُظهر الكثير من تفاصيل عالم النشّالين، ومنها انقسامهم إلى فئة الصبية الصغار، الذين يندسّون وسط الزحام للسرقة.

أما القسم الثاني، فكان يُعرف بالدجّالين، ويرتدون ملابس فاخرة لإحكام خدعتهم للضحية، ويسمى النشّال في لغة اللصوص "السهايرجي"، وأن مدارس تعليم النشل كانت منتشرة، حتى أن  مجلة "المصوّر" نشرت في عدد 1 يوليو 1949، تحقيقاً حول ضبط أربع مدارس للنشل، وبعضها متخصّص في سرقة الأثرياء فحسب، مثل "مدرسة النشل الراقي"، التي يتم فيها انتقاء النشّالين بعناية شديدة.

ويتناول دور المجرمين السابقين، الذين كانوا يديرون هذه المدارس، ويقدّمون دروساً في النشل وأساليبه، ويُخضعون التلاميذ لاختبارات قاسية حتى يتأكدوا من احترافهم للمهنة، وقدرتهم على النزول إلى الحياة العملية، من دون أن يتم القبض عليهم. 

ويحتوي القسم الرابع من الكتاب، على شرحٍ للألفاظ والمفردات العامية المستخدمة في المذكرات، التي لم يعد الكثير منها مستخدماً في الوقت الحالي، حتى أن الأجيال الجديدة ربما تسمع بها للمرة الأولى، مثل "القايش" وهو حزام عريض يشبه أحزمة الجنود، و"جعيصة" وتعني شديد الصعوبة، وهي المفردات التي تمّ تحقيقها من خلال المراجع اللغوية القديمة. 

تصنيفات

قصص قد تهمك