متحف محمد السادس.. قرون من عبقرية تدبير المياه

متحف محمد السادس لحضارة الماء في المغرب. 6 أبريل 2025 - الشرق
متحف محمد السادس لحضارة الماء في المغرب. 6 أبريل 2025 - الشرق
مراكش-علي عباس

يُبرز متحف حضارة الماء في مراكش، عبقرية التعامل مع تدبير الماء مغربياً، فالإنسان المغربي تعامل مع هذا الموضوع كتحدٍ وجودي واجتماعي، بدءاً من التساقطات المطرية الطبيعية والأنهار والسواقي، حتى وصوله إلى المنازل والواحات والقصور والحدائق، والأهم تدبير الماء في السياسة الزراعية، والتعامل مع تحديات الجفاف، والفيضانات وشحّ المياه. 

تمّ افتتاح المتحف المائي عام 2017، على مساحة هكتارين، وثلاثة طوابق تعرض أساليب فن التعامل مع الماء بوصفه ازدهاراً وحضارة، وتعرّف بالتراث المغربي في مجال استعمال الماء؛ والمحافظة على التحف والمنقولات الأثرية ذات العلاقة بهذا العنصر الحيوي.

 فالماء كان دائماً عنصراً جاذباً لبناء المدن والواحات والزراعة والعمران، ويتطلب تدبيره استخدام الأدوات والوسائل التقنية، أكانت تقليدية مثل نظام "الخطارات"، أي السراديب المائية التي حفرها المزارع المغربي، وصولاً إلى التقنيات الحديثة مثل تصفية الماء.

أدوات كانت تستخدم في جر المياه معروضة في المتحف
أدوات كانت تستخدم في جرّ المياه معروضة في المتحف -الشرق

 يعرض المتحف المخطوطات التراثية التي جمعها؛ موروث مائي هائل، ينطوي على التعريف ببعض الاستعمالات الاقتصادية والتقنية التقليدية للماء، إذ يسهم الماء بصناعة الملح والسكر والجلود والعلاج بالمياه المعدنية، عارِضاً التراث المائي الريفي التقليدي، المتعلق بالأنظمة البيئية المغربية، في الواحات والجبال والسهول والصحراء، وسياسة إنشاء السدود.

السياسة المائية في المغرب

يحظى كل محور وقسم في المتحف، بمعالجة سينوغرافية مثل التأثيرات الضوئية: تحف، فيديوات للتوعية، وعروض تفاعلية ثلاثية الأبعاد، وأخرى متعدّدة الوسائط على مجسمات صغيرة، تشرح السردية المرتبطة بسيرة الماء من خلال 13 محوراً منها:

 قضايا الماء الأساسية بالمغرب، الماء في الصحاري والواحات، الجانب الروحي الطقوس والأعياد المرتبطة بالماء، إظهار الموروث الهيدروليكي للماء قديماً وحديثاً التي اشتهرت به مراكش، الحوز نموذجاً، واعتماد هذا النظام في توريد الماء إلى المساجد والبيوت، فضلاً عن السدود وهي كثيرة في المغرب وأساسية في نظامه المائي. 

أدوات تراثية للماء في المتحف
أدوات تراثية تتعلق باستخدامات الماء في المتحف - الشرق

الماء في التراث المغربي

يلعب الماء دوراً أساسياً في تشكيل مستقبل البلدان حضارياً وتنموياً، بل ويؤثر الجفاف والرطوبة والحرارة على سوسيولوجيا المجتمعات نفسياً، من حيث التوتر والإرهاق، فالماء هكذا، هو ليس فقط تنمية للزراعة والبناء، بل هو الإنسان بكل تجلياته العضوية والنفسية.

 يشكّل الموقع الجغرافي موقعه المائي والمناخي؛ متوسطي شمالاً، بينما يسود الجفاف بالجنوب، والجنوب الشرقي للأطلس مع فصل جاف وحار وآخر بارد ورطب، وتساقطات مطرية متنوعة بحسب الجغرافيا.

توثيق تاريخ الماء في المغرب
توثيق تاريخ الماء في المغرب - الشرق

 وفضلاً عن كون المغرب بلداً زراعياً بامتياز، وعليه، يسعى البلد للتغلب على التحديات المائية عن طريق بناء السدود التي يفوق عددها 154 سداً كبيراً، و148 سداً صغيراً، بما في ذلك 8 سدود قيد الإنشاء، و150 مسطحاً مائياً، و20 بحيرة طبيعية دائمة، وقسم كبير من الأراضي الرطبة التي تكون موئلاً للطيور المهاجرة، مع العلم أن انهار المغرب تنبع منه وتصب فيه، أي لا يتقاسم مياهه مع دول الجوار. وهو من أكثر بلدان شمال أفريقيا توفراً على المياه القارية.

تاريخ الماء

يرتبط تاريخ المغرب ارتباطاً وثيقاً بتراثه المائي، فمنذ تأسيسه قامت مختلف السلالات الحاكمة بمشروعات مائية كبرى، وقامت المجتمعات المحلية بتعبئة الموارد المائية المتاحة عن طريق تهيئة العديد من الأعمال، ليس فقط من خلال حفر الآبار وبناء "الخطارات" لجلب المياه الجوفية وبناء السدود، ولكن أيضاً من خلال وضع أساليب التدبير والتقاسم، جاعلة من الماء عاملاً للتماسك الاجتماعي والتوازن البيئي.

متحف الماء في مراكش
متحف الماء في مراكش -الشرق

 هذا التراث المادي واللامادي الغني والمتنوّع والمتراكم على مدى قرون، يعدّ اليوم رهاناَ للتنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المستدامة. هناك تقاليد روحية يلعب بها الماء دوراً أساسياً، فلا يمكن فهم المغرب من دون معرفة مكانة الماء المشكّلة لجوهره.

هكذا يحتفي متحف محمد السادس بحضارة الماء، بهذا العنصر الروحي والاجتماعي الواهب للحياة، عبر تنظيم القسم الأكبر التاريخي من السياسة المائية من طريق وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية (الأحباس)، التي أنشأت العديد من البنيات التحتية المائية: نافورات المساجد والسقايات والفضاءات العمومية والآبار والأقنية، التي يمثل البعض منها حالياً تراثاً ثقافياً ذا قيمة كبيرة. 

يحوز الماء مكانة روحية في المجتمع المغربي، من حيث الطهارة الروحية والجسدية والصلاة، "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ"، الروحانيات والطقوس والمهرجانات المرتبطة بالمياه وصلاة "الاستسقاء"، فلا يجوز التفريط بهذه الهبة العظيمة، بل العمل على تنظيمها ترشيداً للاستهلاك.

من هنا كانت هناك قوانين عُرف قديمة لترشيد الماء في الزراعة بين الحقول، بنظام طريف يعتمد على الشمس والظل (الساعة المائية لقياس جريان الماء) وعلى كمية المياه.

يغذي الماء الآداب والفنون، والمخيّلة الشعبية، فتنتج حوله الأساطير والحكايات كشخصية "لالة توّايا" جنّية عين الماء، التي يقدّمون لها القرابين، وهي مصدر رهبة ولعنة، أحياء للطقوس القديمة كذبح بقرة سوداء وطقس "عروس المطر".

"السكوندو"

شكّل كل من النظامين المائيين القديمين لمدينتي فاس وتطوان، تراثاً معمارياً وعمرانياً فريداَ، فطريقة عملهما وتاريخهما وقيمتهما الجمالية وكذلك الاجتماعية والاقتصادية، جعلت منهما تحفتان حقيقيتان تستوجب الدراسة التقنية. 

لا يزال "السكوندو" يُشكّل مصدراً للتزوّد بالماء لبعض الأحياء القديمة لمدينة تطوان، ما يتطلّب الاهتمام لضمان استمرارية وظيفته الأصلية، فضلاً عن كونه عاملاً ثقافياً وسياحياً.

 "السكوندو" هو مجرى مائي، أو قناة يتمّ من خلالها جلب الماء من الجبال والعيون، وتوزيعه على الأحياء والسقايات والنوافير العامة. الجدير ذكره ان اسم مدينة تطوان هو تطاوين، ويعني "العيون" باللغة الأمازيغية.

  يُعدّ "السكوندو" جزءاً من التراث المائي والهندسي للمدينة، يشهد على المستوى متقدّم من التخطيط المائي والوعي بالاستدامة البيئية يومذاك. وهو ذو أصول أندلسية، جلبه معهم الموريسكيون بعد طردهم من الأندلس. 

مدينة فاس 

اعتمد تخطيط المدينة بشكل مباشر على واديها. تتوفر مدينة فاس على نظام لجلب مياه العيون والأنهار، فضلاً عن شبكة للمياه العادِمة منذ القرن الحادي عشر. تمّ تكييف هذه التجهيزات مع توسع المدينة، استنادا إلى مبادئ الشرع الإسلامي الذي يوجه في نفس الوقت التنظيم الحضري والنموذج الاجتماعي للأمة.

تعتمد الشبكة المائية بفاس على الطبيعة الطبوغرافية المتميزة بالانحدار مع الفصل بين المياه العذبة والمياه العادمة. أسهم الموريسكيون في تطوير شبكات المياه في عهد دولة المرابطين.

مدينة مراكش

أقيم في مراكش المنتدى العالمي الأول للمياه عام 1997، الذي ينظّمه المجلس الدولي للماء، تقديراً لجهود المغرب في تدبير السياسة المائية.

يعتبر حوز مراكش، موطناً متميزاً للتاريخ المائي في البحر الأبيض المتوسط، وقامت أجيال من المراكشيين منذ تسعة قرون بجلب الموارد المائية الجوفية، من خلال  نظام "الخطارات" من الجبال والمسطحات المائية السطحية (140 ساقية على طول 1000 كم)، خدمة للاستهلاك البشري ومن أجل ريّ البساتين والحدائق الشهيرة في المدينة، مثل"الحدائق السرية"، من خلال نظام هيدروليكي.

أما المجال الصحراوي، فيتميز باستعمال الآبار، وتجميع مياه الأمطار بفضل نظام "المطفيات" وهي خزانات تحت أرضية وتجميع مياه فيضان الوديان الصحراوية والغدران والبرك المائية، كما وتستعمل في بعض الحالات "مّعدة الجمل" كخزان لتلبية حاجة البدو. 

اعتمد اختطاط مدينة مراكش على الحدائق، فهي محاطة ببساتين النخيل الشاسعة. وتتخذ نواحي المدينة مظهراً تتناوب فيه بساتين الزيتون الواسعة مع الحقول الكبرى للحبوب. إن مراكش والحوز ينسجان مع الماء روابط وطيدة ودائمة.

تصنيفات

قصص قد تهمك