يُعد الفنان التشكيلي المصري، وليد طاهر، أحد القلائل الذين استطاعوا العبور بسلام بين عالميّ "الرسم الصحفي" و"الفن التشكيلي"، متحدياً نزاعاً بين الرغبتين.
وفي معرضه "كنت هنا من قبل"، الذي يستضيفه غاليري موشن بحي الزمالك العريق في القاهرة، حتى 10 أكتوبر المقبل، استطاع "طاهر" عبر مجموعة من لوحاته تقديم تجربة سيريالية شديدة الثراء.
التجربة الصحفية
وفرض الفنان المصري، خطه الفني على التجربة الصحافية ذاتها، فمنذ تخرجه في كلية الفنون الجميلة 1992، التحق بالعمل الصحفي رسام كاريكاتير ومصمم أغلفة ومؤلفاً لكتب الأطفال، وقدم تجربة ثريّة في جريدة الدستور الأسبوعية ثم نهضة مصر والشروق، وعرفت معه هذه الجرائد المستقلة تجربة جديدة مختلفة عن تجربة فنان الكاريكاتير المعروف الراحل صلاح جاهين.
وتقاطعت تجربة وليد طاهر الصحافية بشكل كبير مع المدرسة العريقة لروزاليوسف، ومع تجارب فنانين كبار مثل الفنان محيي الدين اللباد، والفنان حلمي التوني، حيث إنها تضع قدراً من الفن التشكيلي في الرسوم الكاريكاتيرية ولا تكتفي باختراع شخوص تسرد تعليقاً على الأحداث، فدائماً هناك قدر لا بأس به من التعبير باللون والخيال.
الطريق إلى العمل الفني
يقول وليد طاهر لـ"الشرق": "أحببت في اللبّاد طريقة تفكيره في العمل الفني، وتعلمت منه الكثير، وكنت أخوض معه نقاشات ذهنية عميقة جداً، أما إيهاب شاكر فهو من علمني كيف أبني مبدأ العمل الفني، وعلاقته بما قبله وبعده، وما سيضيفه حقيقة، كان أستاذاً في وضع الأسئلة التي تحدد لك الطريق".
قرر "طاهر" منذ 4 أعوام التحرر من قيود العمل الصحفي، وقضى 3 منها في فرنسا، يعمل على مشروع كتب أطفال، لكنه مختلف أيضاً عن تجاربه مع دور النشر المصرية، إذ سمح له المشروع الجديد، بمساحة أكبر لتقديم محتوى تشكيلي دسم موجه للأطفال دون وصاية أدبية أو فكرية.
يضيف "طاهر": "هذه الخطوة نقلتني بيسر من الإلحاح الآني للصحافة، ومباشرة المضمون، نحو حرية التشكيليين والتخلص من تلك القيود واحداً تلو الآخر".
ويتابع: "قدمت في هذه التجربة كتباً ذات محتويين متوازيين لا سطوة لأحدهما على الآخر، وفيها تخلصت من سطوة النص الأدبي نفسه، فليس ضرورياً أن أرسم شخصيات تشبه ما تقدمه النصوص، إنما حالة مشابهة لحالة النصوص".
لا أريد اكتساح الجماهير
كانت تجربة السفر والعمل فى باريس، علامة فارقة في تجربة "طاهر": "مع هذه التجربة أدركت الفارق الجوهري بين الرسم التوضيحي illustration وبين الرسم التعبيري".
ويضيف: "فهمت معها الفارق الكبير بين حرية الفنان وعدم اكتراثه بمؤثرات أخرى كالجماهير، ومدى إدراكهم للمغزى، شعرت كم كنت ذليلاً للفهم العام، وأنه بإمكاني الانطلاق إلى منطقة من اللاوعي والعمق والسهولة في آن واحد، بعيداً عن المباشرة والسطحية، وحتى حمل الرسائل، مع هذه التجربة أدركت أنى لا أريد الرجوع للصحافة بهمومها".
بين خطوط عمله الثلاثة شعر "طاهر" أن الرسم الصحفي يقطع الطريق على مشروعه التشكيلي والإبداعي، فيقول: "الفن الصحفي هو فن تسهيل الأمور العامة، الصحافة دائماً عينها على الجموع، وتعمل حساباً للناس وتنوع ثقافاتهم، إنما الفن لا يعنيه العدد، بالعكس يختار من الجمهور من يتماسون معه، ولا يريد اكتساح الجماهير".
الطريق إلى السهولة والحرية
وفى "غاليري موشن"، يقدم "طاهر" حالات فنية خالصة خالية من أي محاولة لحمل الرسالة، لا تتخلى عن روحه الطفولية، وجرأته اللونية، وسطوة اللون الأصفر، وحضوره.
ويوضح: "الفكرة والرابط الوحيد بين هذه اللوحات هي أنها حالات مكانية، أو زمانية، أو شعورية عشتها، أنا كنت هنا في كل هذه الصور".
والمعرض المقام حالياً فى الزمالك، هو السادس للفنان وليد طاهر، بعد 3 معارض قدمها في مصر، واثنين في فرنسا، لكن هذه المرة الأولى التي ينتابه فيها هذا الشعور بالتحرر، وهو ما يبرره بقوله: "في معارضي السابقة دائماً كان هناك ما يحكمني بفكرته، مثلاً معرضي الأخير (الشهود 2014)، حين رسمت كنت مقيداً بمعنى معين، أما في هذا المعرض فكنت منطلقاً مع اللون، والقرار الفني وحده هو سيد الموقف.
يوضح الرسّام الصحفي: "لا أريد أن أقول أي شيء للناس، فقط تلك الطفولية المحببة، الموجودة فينا كلنا، هي التي تسمح بعبور الحالة الفنية في مكان بعيد تماماً عن العمق والتورط الذهني".
يتبنى "طاهر" وجهة نظر سريالية يرى فيها أن العمق عبء مجحف، فلماذا يحمل الفنان ما لا يطيق على ظهره وأن يكون فيلسوفاً، وحكيماً، وناصحاً سياسياً، ومرشداً اجتماعياً؟!".
المشروع التشكيلي
وتقدم لوحات معرض الفنان التشكيلي المصري، إجابة عن هذا الاستنكار، حسب تعبيره: "الفن أشبه بشخص يمشي في الشارع يُصفّر مستمتعاً، لا يريد أن يقول شيئاً لأحد أو يشتبك مع فكرة ما".
ويتابع: "هذا ما يجب أن يفعله الفن، حوار مع منطقة خالية من أي تحفظات سابقة التجهيز. دائماً ما أنشد ذلك الجانب الذي نكون فيه أحراراً، وفي كامل انطلاقنا، دون تحفظات ذهنية أو رسائل سياسية، فالتعمق ورطة مفتعلة، الاستمتاع بالفن مكان في رأسنا وفي مشاعرنا، شديد العمق والسهولة في آن".
ويحدد "طاهر" المنطقة التي يفضلها، والتي يتقاطع فيها مشروعه التشكيلي، مع عمله كرسام لكتب الأطفال قائلاً: "بالتجريب اكتشفت أن الفنين السريالي والتجريدي ممتعان جدًاً للأطفال".