يكتب الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد من أجل المتعة لا البحث عن المعنى. وفي أحدث كتبه "الأيام الحلوة"، يواجه صاحب "الإسكندرية في غيمة" ليالي الحظر الطويلة بسبب فيروس كورونا بالضحك، عبر استدعاء شخصيات عرفها واقترب منها، وحكايات طريفة من سيرته "كتاب عن الألفة والمودة.. وشوية ضحك في عالم قاسي"، كما يقول.
يعكس الكتاب جانباً من شخصية عبدالمجيد وجزءاً من مشروعه الأدبي الممتد منذ الستينات، إذ تبحر كتابته في العبث والفانتازيا، وتحتفي بفكرة "اللعب" في مواجهة قبح الواقع وسوداويته.
يكتب عبد المجيد (74 عاماً) عن رفاق العمر في الأدب والحياة، من جيلَي الستينات والسبعينات مثل خيري شلبي ونجيب سرور ومحمد كشيك وعبد الرحمن أبو عوف وأمل دنقل وغيرهم. يقول الروائي المصري: "ليس فقط عن هؤلاء ممن أجلّ من الكتاب والأصدقاء، ولكن عن أحداث أيضاً وليالي سهر ورحلات في كل العالم".
سبق "الأيام الحلوة" عدد من الكتب التي سجل فيها عبد المجيد جوانب من سيرته، فكتب "ما وراء الكتابة 2014، سيرة حول الكتابة وأسرارها"، لكن عبد المجيد يقدم في كتابه الجديد جانباً مختلفاً. يوضح في تصريحات لـ"الشرق": "الاختلاف هو أن "ما وراء الكتابة - تجربتي مع الإبداع" سيرة كاتب مع الكتابة وكيف أصبحت كاتباً وكيف أكتب، أما "الأيام الحلوة" فهو الضحك والأيام الحلوة بعيداً عن أي شيء فني، عن الألفة والمودة، حتى إنني ابتعدت تقريباً عن كل ما رأيت من قبح حتى لا أتذكر أحداً فعل ذلك".
يعشق عبد المجيد المكان، يحتفى بتفاصيله في الكتابة، يبحث قلمه دوماً عن التفاصيل الحلوة، يجتر منها تاريخ المكان والزمن الذي فات حتى وإن لم يحكيه. ورغم أن النقاد يرون اختلافاً بين روايات عبد المجيد التي تدور في عوالم الإسكندرية، وعندما يخرج من مدينته الأثيرة، إلا أنه "لا يحب المقارنة بين روايات الإسكندرية وغيرها".
ويضيف: "دليلي هو الصدق الفني في ما أكتب. حين كتبت رواية "هنا القاهرة" أسميتها "هنا القاهرة" لأقول والله أنا أكتب الرواية وليس مهماً عم أكتب. المكان في كل رواية هو صانعها. المهم كيف أكتب الرواية. أنا لا أقرر، بل هي التي تكتبني، والمكان صانع للشخصيات كما أن الشخصيات هي صانعة الأحداث ولست أنا. أنا لا أعرف أبداً حين أبدأ ماذا ستفعل الشخصيات. ورغم ذلك فإنني لا أقف عند أي مقارنات. الدراسات لها طريقتها وكما أني حر في الكتابة غيري حر في الدراسة".
العابرة في مواجهة التشدد
استهل عبد المجيد العام بإصدار روايته "العابرة"، والتي ناقشت قضية العابرين جنسياً، التي برزت مؤخراً في العالم العربي. ويرى عبد المجيد أن موقف المجتمع العربي تجاه مثل هذا النوع من القضايا لا يزال صلباً ومتحجراً، لكنه في طريقه للتغيير.
ويوضح: "أعتقد أن ظهور شخصيات عامة مثل النجم هشام سليم وابنه على الهواء مباشرة وإعلان ذلك سيفتح الطريق للتغيّر. القضايا الجندرية والترانس - جندر مدمرة، ونحن لسنا كما يحدث في العالم المتقدم، ندرك أن ذلك لا يتم إلا تحت ضغوط جسدية. أمامنا وقت".
قدم عبد المجيد في روايته التي تدور حول فتاة تتحول إلى شاب، بعد مواجهة مع أهلها والمجتمع من حولها، وتقع تحت طائلة القانون بسبب عجزها عن تغيير وثائقها الثبوتية من أنثى إلى ذكر، لكن اللافت أن أبطال الرواية من الشباب يتمتعون بوعي سياسي واجتماعي أعلى كثيراً مما اعتدنا عليه في فترة نهايات المراهقة وبداية الشباب، مقارنة بما كان عليه الأمر قبل عقد من الزمن.
ويعلق الروائي المصري إن هذا الوعي ليس مبالغة "فالبطلة / البطل يدرس في الجامعة وقد تخرج من مدارس أجنبية، يتقن الإنجليزية وشيئاً من الفرنسية ويقرأ بها أيضاً، وليست لديه مشكلة في أن يعرف الكثير عن مرضه من مواقع الكتب الأجنبية فتستفحل أزمته، لأن أحداً في البيت لا يصدقه. يقول: "أنا من هواة تويتر وغيره من مواقع الإنترنت وأرى كثيراً الشباب يملكون وعياً عالياً، ويختصرون ببساطة شديدة كثيراً من القضايا الكبرى في عبارات بسيطة، واضحة وحاسمة".
يتابع: "كان تأثير وسائل الإعلام الحديثة واضحاً في ثورة يناير أكثر من أي شيء آخر، وقد استخدمها الشباب في الدعوة للاحتجاج، لكن هذا لا يمنع من الحزن أن هناك الكثيرين أيضاً واقعون تحت تأثير الأفكار الدينية المتشددة، هؤلاء أتجنبهم لأنهم ضحايا خمسين سنة من الفكر المتشدد الذي روجت له جماعة الإخوان المسلمين والسلطات أيضاً منذ عصر السادات".
في الرواية مونولوجات طويلة، يمارس البطل واحدة من الألعاب المفضلة لعبد المجيد وهي المزج بين أطياف غرائبية والقضايا السياسية والاجتماعية، وقد تجلت تلك اللعبة في "العابرة"، إذ ربط عبد المجيد قضيته (العبور الجنسي) بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالأطياف الغرائبية.
ويرى عبد المجيد أن هذه الأطياف "ليست جديدة عليّ منذ رواية المسافات التي كتبتها عام 1980 ونشرتها عام 1981. وهي تظهر هنا في لحظات الأزمات النفسية، فحين يتم القبض مثلاً على إحسان صديق البطلة لمياء التي ستصبح حمزة، يأخذها اليأس إلى حلم تحت أعماق البحار، تعود منه بسلة من قشور السمك، ما إن تصل بها إلى البيت حتى تتحول إلى ذهب، لكنها لا تجد شيئاً عندما تصحو من النوم، لكنها تشعر بالأمل، وهكذا كل المشاهد الخيالية، كما أن هناك مشاهد أخرى توسع من أفق الرواية، وليس مهماً أن تجد في الفن معنى مباشراً، بقدر ما تكفي متعة الخيال".
لا يحب عبد المجيد التفتيش عن معنى لكل شيء في الفن، فللمتعة والخيال نصيب، وحين يظهر رجل يغنّي وحده في الشوارع عند الفجر يخرج الناس لسماعه فتظهر ثعابين تملأ الفضاء وتأكل من ينزل إليها ثم تختفي. يؤكد: "ليس مهماً إيجاد أي معنى لذلك لكنه الخيال، المعنى متروك للقارئ إذا أراد والإحساس أهم من المعنى".
ويعتبر الروائي المصري أن الخيال والواقع "هما وجها الحقيقة، فلا واقع بلا خيال، وأنا لست من المغرمين بالبحث عن معنى في أي عمل، لكني من المغرمين بالبحث عن المتعة. مثلاً حين يعود إحسان ولمياء من عند صديقتها بعد انفجار حدث في الطريق وسط البلد وإغلاق المقاهي، ويجدان مقهى مفتوحاً فيجلسان ويجدان النادل عجوزاً والجالس الوحيد البعيد عنهما عجوزاً أيضاً، يسألان كيف تفتح المقهى الآن فيجيب النادل بأن معه إذناً، فيسألان عن العجوز البعيد فيقول إنه مخبر يجلس ليعرف الجالسين".
لا يتوقف صاحب "البلدة الأخرى" عن الكتابة، أنهى في شهور العزلة الطويلة بسبب فيروس كورونا رواية جديدة، لا يريد أن يكشف تفاصيلها.. يبتسم: "الكتابة من محاسن العزلة، ولن أتحدث عن روايتي الجديدة، لأني لا أحب أن أتحدث عن عمل فني إلا حين يقترب موعد النشر".