"الماضي هو فصلي المفضل".. رواية مرحلة من المجد الأدبي

الكاتبة الفرنسية جوليا كيرنينون. نوفمبر 2024 - zone-critique.com
الكاتبة الفرنسية جوليا كيرنينون. نوفمبر 2024 - zone-critique.com
الدار البيضاء-مبارك حسني

يحمل كتاب "الماضي هو فصلي المفضل" للفرنسية جوليا كيرنينون، الصادر عن منشورات جوليار، باريس (2024)، دعوة أدبية ونسوية جريئة، تدفعنا إلى إعادة قراءة الأعمال الكلاسيكية للكاتبة والشاعرة الأميركية، جيرترود شتاين، التي انتقلت إلى باريس عام 1903، واستقرت فيها طوال حياتها. 

كانت شتاين جامعة أعمال فنية أيضاً، وشخصية متألقة في باريس القرن العشرين، وصديقة الفنانين الكبار مثل بيكاسو وماتيس وبراك وهمنغواي، واستضافت صالوناً أدبياً التقى فيه روّاد الحداثة في الأدب والفن في باريس. وعلى الرغم من علاقاتها الواسعة، لكن استقبالها المعاصر جاء متأخراً.

ولكن لماذا شتاين تحديداً، وما هي صلتها بأعمال جوليا كيرنينون؟ الإجابة هي مرحلة الطفولة التي كانت فيها شتاين حاضرة في مكتبة المنزل.

يضم كتاب كيرنينون، خلاصة تجربة مختلفة، تأخذ رحيقها من خصائص السيرة الذاتية، ومن مميزات الرواية التخيليية، ومن اكتشافات البحث الأدبي. إذ لطالما ارتبطت المؤلفة بالكتب، "المكان الوحيد في هذا العالم الذي أشعر فيه بالأمان، وفيه أكون في مكاني، جديرة بالحياة". 

صارت جوليا كيرنينون فأرة في المكتبات، بحسب المثل الفرنسي، تقرأ كل شيء، سابحة في الكون الورقي، حيث لا مكان للسأم والروتين. 

الكاتبة الأميركية شتاين إلى جانب لوحة بيكاسو التي رسمها لها
الكاتبة الأميركية شتاين إلى جانب لوحة بيكاسو التي رسمها لها - metmuseum.org

نشأت في بيت محوره المكتبة التي كوّنتها والدتها قبل ولادتها، حيث المؤلفون بأسمائهم المألوفة عاشوا برفقتها، وتحوّلوا إلى آلهة حارسة وأرواح في البيت،  لم يفارقوا حياتها. 

الآلة الكاتبة

لذا يحضر الماضي لديها كفصل مُفضّل، وتقول بهذا الصدد: "عندما أتحدث عن علاقتي بالأدب، أجدني دائماً مضطرة إلى الرجوع إلى الوراء، إلى الماضي، إلى طفولتي وإلى أمي، وإلى آلة الكتابة، وإلى الأدب الأميركي الذي كان على رفوف المنزل الذي نشأت فيه".

 وللآلة الكاتبة التقليدية ذكرى خاصة عند كيرنينون، إذ أهدتها إياها والدتها وهي في الخامسة من عمرها.

وبمناسبة هذا الكتاب، عادت كيرنينون إلى هذا الماضي لتسبح فيه وتكتب عنه، وتستخلص منه ما كان محدداً في تصوّرها المستقبلي للكتابة، التي تعتبرها سلطة تقتطع من الأحداث الفائتة الأشياء على شاكلة الأمتعة، نفرز منها الأغراض المفيدة في حقيبة، كما نفعل عند كل رحلة، أحداث نحملها في داخلنا باستمرار، ونفترض في النهاية الوسيلة التي نرويها بها. 

غلاف كتاب الماضي فصلي المفضل
غلاف كتاب الماضي فصلي المفضل -uneautrepage.fr

أول ما يحضر في ذاكرة الكاتبة، بيت شعري كانت والدتها تردده باستمرار، وترسّب في ذهنها: "هذه الوردة وردة، وهي وردة". حين كبُرت، وجدت أن هذا البيت هو للكاتبة الأميركية المعروفة جيرترود شتاين (1874- 1946)، وهي أوّل امرأة اختارت أن تكون كاتبة حرّة من دون أي ارتباط ، في زمن كان ذلك حصراً على الرجال. 

لذلك خصّصت كيرنينون  لها صفحات طويلة، تعرّف بها، وكأنما تتماهى مع مشوارها كامرأة ساهمت في بروز حمى المغامرات الفنية والأدبية الكبرى، التي عرفتها باريس في النصف الأول من القرن العشرين، وأثّرت في العالم أجمع، وكانت منبع الحداثة.

لقد رأت فيها النموذج الذي يجب أن يُحتذى، وخصوصاً أنها ساهمت في شهرة فنانين كبار مثل سيزان وماتيس، وأخذت بيد الفنان بيكاسو الشاب، في بداية تلمّسه لتيار التكعيبية في الفن، إذ رسم لها بورتريه شهير.

 وكانت شتاين عرّابة حركة أدبية، وكانت تستقبل في منزلها كُتّاباً كباراً على غرار جيمس جويس وإزرا باوند وأبولينير، ثم أرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وآخرين، حين كانوا في بداية طريق المجد الأدبي، وأطلقت عليهم وصف "الجيل المفقود".  

إعادة تعريف البطولة الروائية 

كانت جيرارود شتاين كاتبة تمارس الأدب كما تمارس الحياة. في هذا الإطار ذكرت جوليا كيرنينون هذا المنحى من حياتها، وتناولت الكتاب الذي خصصته شتاين لسيرة صديقتها أليس ب. توكلاس، وأسهم في شهرتها، بعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها.

كتبت : "هاتان السيدتان قضتا حياتهما تتناولان العشاء متنكّرتين مع الفنان العجائبي روسو، تدردشان مع الفنان ماتيس والشاعر أبولينير، تأمران همنغواي الشاب وجويس العجوز، وتحتسيان عصائر فواكه شهية في صالون تكسو جدرانه لوحات لفنانين عظماء".

تضيف: "لم يكن يعرفهم حينها أحد، تلعبان بالبنادق في حفلات السيرك، تتابعان بشوق مصارعة الثيران، وتقومان بتحطبب الخشب، وفي الوقت نفسه كانت السيدتان تمتلكان نحو 150 لوحة لبيكاسو، كما شاركتا في المجهود الحربي، ووقّعتا كتباً على ظهور جنود ألمان".

لقد رفعت جوليا كيرنينون الحجاب عن طريقة أخرى لصناعة الأدب، وممارسة الترجمة، وكتابة الرواية، انطلاقاً من صفتها كامرأة تعيش التجربة عيانياً لا استبطانياً، أو استلهاماً مما كتبه الكُتّاب الذكور، بحسب رؤيتهم الخاصة، وإن بشكل لاواعٍ. 

فالمرأة فيما يبدعونه، ولو كانت بطلة حقيقية وحاضرة بقوة في صفحات طويلة، مثل مدام بوفاري"، للروائي غوستاف فلوبير، أو "آنا كارينينا" للكاتب ليون تولستوي، تظل محكومة بتصوّر مسبق، يعكس منظار الرجل إليها في الأساس. 

فهما في الروايتين الشهريتين اللتين تحملان اسميهما، خاضعات لرجال، وتُعاقبان بسبب حريتهن، وتموتان موتاً رومانسياً في معاناة مروّعة. وهذا ما رفضته جيرترود ستاين وسارت على منواله جوليا كيرنينون.

تقول الكاتبة: "يمكننا أن نرفض البنية السردية والاجتماعية المفروضة علينا، وأن نفعل الأمور بطريقتنا الخاصة. يمكننا أن نؤسّس شكلاً جديداً من البطولة، له قوانينه الخاصة، ورموزه الخاصة، بطولة لم تُخترَع لها الكلمات بعد". 

ذنب القراءة 

 تنقلب حياة الكاتبة رأساً على عقب، عندما تجد نفسها في صراع مع ممارسة الزوجية والأمومة مثلاً. وقد لاحظت جوليا كيرنينون ذلك مبكراً، حين كانت والدتها تشعر بالذنب كلما أخذت كتاباً وقرأته في وضح النهار، معتقدة أن ذلك سيكون على حساب واجباتها كزوجة وأم. 

لكن قراءة كتب ومسار شتاين، بعد ذلك بسنوات، حرّر جوليا من هذا الذنب الذي كانت سترثه. تقول: "كنت في العشرين من عمري في بودابست المغطاة بالثلوج، ولم أكن أملك شيئاً سوى خوفي من الفشل. ثم ذكّرتني شتاين بأن الحياة واسعة وغنية، وأن لدي حرية الاختيار، وأن الأمر يعود إليّ في الغالب".

محاربة صغيرة 

كتبت مجلة "لونوفيل أوبزرفاتور" عن الكتاب: "إنه أكثر من مجرد عشق، بل نوع من الإصرار عند جوليا كيرنينون على الحديث عن الأدب. شيء عنيد، يشبه الزهد، وكأنها ولدت محاربة صغيرة في خدمة الحروف." قرأتْ لتكتب، وكتبت لأنها قرأت. 

تصنيفات

قصص قد تهمك