على مدى أكثر من أربعة عقود، استطاعت الفنانة نازلي مدكور، أن تقدّم رؤية بصرية خاصة، جعلتها واحدة من أبرز الأسماء في مجال الفن التشكيلي في مصر والعالم العربي. حصلت أخيراً على جائزة الدولة في مجال الفنون، التي تقدّمها وزارة الثقافة المصرية، ضمن جوائز الدولة التشجيعية.
في حوار مع "الشرق"، كشفت الفنانة عن تفاصيل ترشّحها للجائزة، وكيفية تشكّل تجربتها الفنية.
كيف تلقيت خبر فوزك بجائزة الدولة للتفوّق في مجال الفنون هذا العام؟
كنت ضمن أربعة مرشّحين على القائمة القصيرة للجائزة، وهذا يعني توقّع الفوز إلى حد ما، لكن لحظة تأكدي من الحصول على الجائزة، كان شعوري بالسعادة كبيراً.
تقولين إن الجوائز غالباً تذهب للكوادر الأكاديمية، فما هي الرسالة التي يحملها فوزك للتشكيليين الجدد؟
عادة ما تطرح الجامعات أسماء المرشّحين من الكوادر الأكاديمية فعلاً، لكن من المهم كذلك وجود جهات أخرى موثوقة تقدّم ترشيحاتها، كي تكون الفرص أكبر أمام المبدعين للحصول على الجوائز، وتقييم عملهم وإنتاجهم، ومدى وصول رسالتهم إلى الناس.
بالنسبة لي، ترشيحي جاء من خلال مكتبة الإسكندرية. وبشكل عام، الفنان الجاد يعمل ويقدّم فنه ورسالته من دون انتظار أوسمة، وفي الوقت نفسه حصوله على جائزة يشعره بالدفء، وأن الناس يقدّرون عمله ومجهوده، ويحفّزه على العمل.
أرى أن الدول التي تكرّم فنانيها وعلماءها، تعطي رسالة لشعوبها أولاً، وللعالم ثانياً، بأنها تقدّر الفن والعلم والمبدعين، وهي رسالة مهمة.
طرحت فكرة أن الفنان يعمل سواء حصل على أوسمة أو لا. فهل الإبداع فعل عفوي مزاجي، أم مثابرة وعمل يومي؟
الحالة المزاجية لا يمكنها أن تتحكم بعمل الفنان بالكامل، ويجب أن يكون هناك عمل يومي. بالنسبة لي الفن عمل أمارسه يومياً، فأذهب في العاشرة صباحاً إلى الأتيلييه وأظل أعمل حتى الثالثة والنصف، كي أستطيع الإنتاج وتوليد الأفكار الجديدة.
أحياناً يجد الفنان أن العمل الذي أنجزه ليس ناجحاً، لكنه في اليوم الثاني ينظر إليه ويعيده من البداية، أو يعمل عليه مرة أخرى، والفنان يجب أن يكون ملتزماً بمواعيد عمل.
هل دراستك للاقتصاد والعلوم السياسية وعملك السابق في الأمم المتحدة ترك أثره على خطط الزمنية وجدول عملك الفني؟
الفن له طرق أخرى مختلفة تماماً، إذ يعتقد البعض أن كل الفنانين لديهم الطريقة نفسها في العمل، لكننا لا نتعامل بالشكل نفسه مع العملية الفنية، لأن "كل شيخ وله طريقة"، وأسلوبي الفني يعتمد على العفوية، وهي مسألة لا يمكن وضعها في جداول ومواعيد وخطط؛ فاللوحات قد تكون بالمقاس نفسه، لكن الأولى يستغرق العمل عليها أسبوعاً، والثانية قد تستغرق شهراً.
وبالفعل فإن دراستي السابقة وعملي في الأمم المتحدة، انعكسا على جدية العملية الفنية والتعامل معها؛ صحيح أنني لم أدرس الفن في الجامعة، لكني أؤمن بأهمية الدراسة، فوضعت لنفسي جدولاً تثقيفياً وتعليمياً لتعويض الدراسة الأكاديمية.
سافرت إلى إيطاليا ودرست في كلية "ساتشي" للفنون (SACI) وهي جامعة صيفية في فلورنسا، ودرست مع فنانين مصريين، وقرأت في فلسفة الجمال، بالإضافة إلى جولاتي على المعارض والمتاحف.
لديك حب كبير للثقافة الإسبانية، هل تأثرت أعمالك بها؟
بالفعل أحب الثقافة الإسبانية جداً، وتعلمت اللغة الإسبانية وسافرت مرات عدّة إليها. فنون إسبانيا تأثرت بدورها بالثقافة الإسلامية، لكن الفنان يتأثر بمجموع الفن العالمي القديم والحديث، وثقافته البصرية والحياة اليومية والأحداث من حوله، وهي كلها عبارة عن تراكم يظهر صداه في العمل. الفنان يشبه الإسفنجة التي تمتصّ كل شيء، إما يخرجه في أعمال تنغمس بشكل كبير مع الواقع، أو تهرب منه، وأنا أحد الهاربين من الواقع.
هل كان معرضك الأخير "أثير الأرض" تجسيداً لهذا الهروب، وخصوصاً أنك قدّمت فيه رؤية مختلفة للطبيعة؟
بالفعل لم أرسم الطبيعة كما نراها، لكني قدّمت رؤيتي الداخلية لها. صحيح أنني من مدرسة الهروب، لكنه ليس هروباً كاملاً، وعندما تكون حولنا قتامة وحزن، فهي تظهر في العمل بصورة أو بأخرى، حتى لو أن موضوع العمل في الأصل مبهج وزاهي.
في جزء من هذا المعرض، كانت الأعمال تعبّر عما تتعرّض له الطبيعة من انتهاكات، ويختلط فيها إحساس الحزن على الطبيعة، والمآسي التي تحدث حولنا؛ لهذا كان الشجن مسيطراً على الأعمال في المعرض.
درست الاقتصاد والعلوم السياسية، وعملت كخبيرة اقتصادية في الأمم المتحدة. كيف جاء قرار التفرّغ للفن؟
حصل ذلك في بداية الثمانينيات، وكان قراراً صعباً استغرق مني ثمانية أشهر ، كي أنهي 11 عاماً من العمل في مجال مختلف تماماً، يختلف عن سنوات الدراسة التسع الأخرى، لكني لا أندم لحظة على هذا القرار، لأني وصلت إلى قناعة، أن الفن هو المجال الذي أحب أن أقضي معه عمري الباقي.
ما التحديات التي تواجه الفنانات التشكيليات، وكيف تغيّر المشهد اليوم مقارنة بعقود سابقة؟
أعمل في الفن منذ 45 عاماً، والفنانات المصريات لهن دور رائد في الحركة التشكيلية المصرية، منذ بدايتها في عشرينيات القرن الماضي، ساعدهن في ذلك أن الفن المصري الحديث كان اتجاهاً جديداً اقتحموه مع الرجال في الوقت نفسه، وصادف في هذه المرحلة ظهور حركات تحرّر المرأة التي استفادوا منها.
على الجانب الآخر في الغرب، كانت فترة إعادة النظر في أعمال الفنانات الغربيات، بعد سنوات من التمييز ضدهن. وبهذا كانت الظروف مساعدة للفنانات المصريات، وظهرت أعمال جاذبية سري، وعفت ناجي، وإنجي أفلاطون، وتحية حميم وغيرهن، ممن تركن بصمة مؤثرة في الحركة التشكيلية المصرية.
عندما عملت في بداية الثمانينيات، كان عدد الفنانات لا بأس به، لكنه انخفض في فترة التسعينيات. ومع بداية الألفية الجديدة، ارتفع عدد الفنانات بشكل ملحوظ، وكثيراً منهن قدّمن أعمالاً مهمة.
يستوقفني جداً إلى جانب الرسم، تزايد الفنانات اللواتي يعملن في النحت، وأعمالهن قوية ومعبّرة، علماً أنني ضمن لجنة تحكيم "جائزة آدم حنين للنحت"، فأرى عن قرب قوّة أعمال الفنانات.
لديك تجربة فنية مختلفة في رسم رواية "ليالي ألف ليلة" للأديب العالمي نجيب محفوظ، هل يمكن اعتبارها لقاءً بين الأدب والفن؟
هي تجربة مختلفة، والقصة أن دار نشر أميركية متخصّصة بنشر نسخ محدودة من الأعمال الأدبية المميزة، تدعى "Art Books" ويصل طول الكتاب إلى أكثر من 30 سم، اختارت كتاب "ليالي ألف ليلة وليلة" للأديب نجيب محفوظ، وطلبوا مني رسومات للكتاب.
كانت المرّة تلك تجربتي الأولى في رسم الكتب، لاقت نجاحاً، صوّرت فيها روح شخصيات الرواية، مثل شهرزاد وشهريار، قدّمتهم بروح المنمنمات العربية القديمة، وكان عددهم 7 لوحات في الكتاب و10 لوحات في مجلد.
أصدرت كتاب "المرأة المصرية والإبداع الفني" وهو عبارة عن أرشيف لأعمالك، فهل يجب على الفنان أن يوثّق أعماله بنفسه؟
يضم الكتاب حواراً مع الناقدة مي يني، ودراستان نقديتان للفنان والناقد المصري الراحل عز الدين نجيب، وللشاعر والناقد العراقي فاروق يوسف. الفكرة أن الكتاب يقدّم وجهة نظر الفنان عن عمله، ويمنحه الفرصة لشرح أسلوبه في العمل ووجهة نظره بشكل أكثر دقة وتعبيراً، لأن الناقد عندما يتحدث عن عمل، فهو يحلله كما يراه من خلال تجربته وثقافته، وفي هذه النوعية من الكتب، لا يتمّ شرح كل لوحة، بل روح الفنان نفسه وتوجهاته واستراتيجيته الفنية العامة.