في زمن تتسارع فيه الوسائط الرقمية، وتتبدّل أشكال التعبير الثقافي، تبرز محاولات جادّة لإعادة تقديم الأدب الكلاسيكي، ليس عبر الورق أو المسرح فحسب، بل من خلال ألعاب فيديو تفاعلية.
تأتي لعبة "أورورا: شاعر الفجر"، كواحدة من هذه التجارب، التي تعيد إحياء عالم الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا (1898–1936)، من خلال عدسة تكنولوجية حديثة.
صدرت اللعبة على منصّة "ستيم"، وهي من إنتاج استوديو "يلو جاكيت" الأندلسي، واستُوحيت بالكامل من عوالم الشاعر الإسباني لوركا، وتحديداً من ديوانه "شاعر في نيويورك" الذي كتبه خلال إقامته في المدينة بين عامي 1929 و1930؛ وهي فترة فاصلة في حياة الشاعر الشخصية والإبداعية.
تعدّ هذه المحاولة الأولى من نوعها عالمياً، التي تجعل من شاعر بطلاً تفاعلياً في فضاء ألعاب الفيديو، لتقدّم تجربة شعرية سريالية، تدمج بين الأدب، والفن البصري، واللعب الذهني.
هل يمكن للشعر أن يصبح لعبة؟
طرح المشروع منذ الإعلان عنه في يوليو، أسئلة ثقافية جديدة: هل يمكن تذوّق الشعر من خلال لعبة فيديو؟ وهل تجعل لعبة الفيديو النص الأدبي أكثر سطحية، أم تعيد تقديمه في قالب مختلف لجمهور جديد؟
يحاول دانيال نافارو، مطوّر اللعبة الأوّل، الإجابة على هذه الأسئلة قائلاً: "اللعبة ليست شرحاً للقصائد، بل باب نحوها. ربما يلعب أحدهم المستوى ثم يقرأ القصيدة بحثاً عن معناها. هذا مفتاح، شيء إضافي، هو أن اللعبة تعرّف جمهوراً شاباً على شاعر، غالباً ما يُدرّس في قاعات الأدب، وليس على شاشات الحاسوب".
10 مستويات
تقوم اللعبة على بنية فنية خاصة، إذ تتكوّن من 10 مستويات، كلّ منها مستوحى من قصيدة مختلفة من ديوان "شاعر في نيويورك". لا يخوض اللاعب، الذي يتقمّص دور لوركا تحديات قتالية، بل يتنقّل في عالم سريالي غريب، يستحضر فيه رموز القصائد وعذابات الشاعر.
يؤكّد المخرج الإبداعي للمشروع، خيسوس توريس، "أن كل مستوى هو بمثابة قصيدة حيّة. ويقول: "كان هدفنا في كل مستوى نقل مشاعر شعرية، كأننا في أعماق النص اللوركي".
يضيف: "من أكثر المستويات تأثيراً هو ذلك المرتبط بـهارلم".
وبالفعل من يمارس اللعبة، سيلاحظ أنها تحاكي في أحد مستوياتها فصل "ملك في هارلم"، حيث يواجه اللاعب شوارع نيويورك من منظور كابوسي، مليء بالصرخات السوداء، والظلال المتكسّرة، وأصوات الأبواق التي تسحبنا إلى الجحيم، تماماً كما لو كنا نتنزّه في أبيات لوركا.
آلة كاتبة مكسورة
يبدأ اللاعب مغامرته داخل متاهة قاتمة، تمثّل اغتراب لوركا في نيويورك، باحثاً عن 27 مفتاحاً لآلة كاتبة مكسورة. إنها رمزية للقصائد المفقودة أو للصمت الشعري الذي أصابه في بدايات رحلته إلى المدينة.
في إحدى المراحل، تتعطّل المصاعد في ناطحة سحاب بلا نوافذ، ويتعيّن على اللاعب صعود الدرج وسط أصوات "آلة حساب عملاقة"، تمثّل النظام الرأسمالي الأميركي.
يقول المدير الفني للعبة، كارلوس برايدا: "لم نرغب في أن نقدّم لوركا كرمز مقدّس، بل كإنسان هشّ، غاضب، ومندهش. هذه لعبة عن الصراع الداخلي والجَمال المشوّه".
تصميم سريالي
توظّف اللعبة أسلوباً بصرياً يمزج بين التكعيبية والتعبيرية، مع ألوان داكنة متقطّعة، وخطوط مشوّشة، وأجساد غير مكتملة. العالم ليس واقعياً فيها بل حلمياً، كما في مقطع من قصيدة "مدينة بلا نوم": "لا أحد ينام في السماء. لا أحد، لا أحد". هذا العالم لا يُقصد به تقديم تفسير مباشر، بل الإحساس بالعزلة، والتمزّق، ومرارة مدينة لا ترحم.
نهاية مفتوحة كما لوركا
تنتهي اللعبة بمشهد رمزي، حيث يسير الشاعر على جسر بروكلين، بينما تهبّ العاصفة في الخلفية، وتبدأ آلة الكتابة القديمة في العمل مجدداً. المفارقة أن لوركا لم يستخدم الآلة الكاتبة أبداً. المشهد الأخير لا يحمل خاتمة، بل دعوة للتأمّل. قد تكون اللعبة ابتعدت عن الواقع، لكنها اقتربت من جوهر لوركا: ذلك التوتّر الأبدي بين الضوء والعتمة، بين القصيدة والعالم.
تحفّظات وأخطار
جاء تمويل المشروع، الذي استغرق نحو عامين، من خلال مِنح ثقافية ومبادرات خاصة، بقيمة تقديرية وصلت إلى 150 ألف يورو. اللافت أن القائمين على اللعبة استعانوا بمستشارين أدبيين ومتخصّصين في أعمال لوركا، لضمان عدم تشويه روح النصوص والقصائد.
إلا أن بعض النقّاد، مثل الكاتب فيكتور فيرناندز، أعربوا عن تحفّظاتهم معتبرين أن "الخطر ليس في اللعبة، بل في جعل لوركا بطل مغامرات. يجب أن تُفهم خلفية معاناته مع العنصرية، والاغتراب، والانكسار الذاتي".
مع ذلك، تبقى اللعبة تجربة نادرة في العالم الرقمي: شاعر يُقرأ… وقصيدة تتم ممارستها.