"الناس فِرَقٌ وأنتَ ربّ الناس جميعاً"، لم تكن هذه العبارة التي أطلقها محي الدين ابن عربي، قبل قرون من قلب الأندلس، مجرد تأمّل صوفيّ فحسب، بل هي رؤية إنسانية كونية تدعو إلى التسامح والتعددية.
لكن اليوم، وتحديداً في مرسية، المدينة التي وُلد فيها المتصوف الكبير، تُختبر هذه الحكمة في سياق مغاير تماماً: قرار بلدية خوميّا بحظر الاحتفالات الإسلامية الكبرى (خصوصاً عيد الفطر وعيد الأضحى) في الفضاء العام. فتح باباً واسعاً للجدل حول الهوية والذاكرة والحقوق الثقافية.
خلفية القرار
مع بداية هذا الشهر، صوّت مجلس بلدية خوميّا في مدينة مرسية بأغلبية حزب الشعب اليميني، وحزب "فوكس" اليميني المتطرّف، على قرار يمنع إقامة احتفالات عيد الفطر وعيد الأضحى في الأماكن العامة. السبب الرسمي هو "الحفاظ على النظام العام وتنظيم استعمال المرافق، واحترام التقاليد المحلية"، وفق ما صرحت به نائبة رئيس البلدية من حزب الشعب.
جاء القرار بعد عدّة شكاوى من سكان المدينة، الذين أعربوا عن استيائهم من الضوضاء والازدحام خلال هذه الاحتفالات الدينية، ما فتح نقاشاً محموماً داخل المجلس البلدي. أما حزب "فوكس" المتطرف فدعم القرار بشدة، معتبراً أنه "ضرورة لحماية الهوية المسيحية لإسبانيا"، محذّراً من "محاولات فرض مظاهر دينية أجنبية على الفضاءات العامة".
انتقادات حقوقية
بطبيعة الحال، لم يمرّ القرار من دون ردود فعل معارضة، وقالت تقول سارة مارتينيز، خبيرة الهجرة والتنوع الثقافي إن "قرار خوميّا ليس حالة معزولة، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تستهدف إضعاف الحضور الإسلامي في المشهد العام، وتعكس خطاباً إقصائياً يُغذى من مخاوف اقتصادية واجتماعية."
وأكدت الباحثة والكاتبة الإسبانية ماريا رودريغير، "أن الإسلاموفوبيا المؤسسية لا تُعبّر فقط عن خوف أو كراهية فردية، بل هي جزء من هيكل أعمق يُكرّس الإقصاء ويعزل الأقليات في الفضاء العام."
أما المؤرخ الإسباني فرناندو ريبير، فرأى أن "قرار خوميّا، يمثّل نكسة ثقافية في قلب مدينة، كانت مثالاً حيّاً على التعددية والتعايش". معتبراً أن "محاولة فرض هوية دينية موحّدة هنا، تعني إنكار التاريخ والواقع الثقافي الذي صنع هذه الأرض".
أضاف: "الأندلس ليست مجرد ماضٍ يتم تدريسه في كتب التاريخ، بل هي تراث حيّ يمكن أن يلهم التعايش والاحترام المتبادل في مجتمع اليوم".
في الإطار نفسه، شدّدت الناشطة الحقوقية ماريا لوبيز على أن "الاحتفالات الدينية ليست مجرد طقوس، بل جزء لا يتجزأ من الهوية الثقافية والروحية، وحرمان المسلمين منها في الأماكن العامة يهدد النسيج الاجتماعي ويزيد من العزلة."
إسلاموفوبيا مؤسسية
في العقدين الأخيرين، برز مصطلح "الإسلاموفوبيا المؤسسية" ليصف نمطاً من التمييز ضدّ المسلمين، لا يقتصر على مواقف الأفراد أو الخطاب الإعلامي، بل يشمل سياسات رسمية وإجراءات حكومية تعيق ممارسة الشعائر الدينية والثقافية بحرية.
هذه الظاهرة تمثل أبعاداً أعمق من الخوف من الآخر، حيث تتشابك مع مخاوف اجتماعية وسياسية تُغذيها تيارات يمينية متطرّفة تسعى إلى فرض هوية دينية وثقافية أحادية.
هذه الظاهرة تُعيد طرح تساؤلات كبرى عن قدرة الدول الحديثة على ضمان التنوع والحرية في مواجهة تيارات متشددة، تريد استئصال الأشكال الدينية والثقافية التي تعتبر "مختلفة".
وما حدث في خوميّا يبيّن كيف أن هذا النوع من القرارات يعكس "إسلاموفوبيا مؤسسية" تُمارس عبر سياسات وممارسات رسمية تقيّد الحريات الدينية للمسلمين، تحت ذرائع واهية مثل "النظام العام" أو احترام التقاليد.
في هذا الإطار، أعربت الجالية المسلمة في المدينة الأندلسية، عن غضبها الشديد، معتبرة أن المنع "يضعها في موقع تهميش ثقافي وديني، ويقلل من حقّها في التعبير عن هويتها". منظمات حقوق الإنسان بدورها ندّدت بالقرار، ووصفته بأنه "شكل من أشكال التمييز الديني المؤسسي".
الهوية بين اليمين واليسار
يطرح منع الاحتفالات الإسلامية في خوميّا تحديات حقيقية حول مفهوم الهوية الوطنية في إسبانيا، ويعكس صراعاً بين إرث تاريخي متعدّد الجذور، وبين محاولات فرض سرديات أحادية الطابع.
غير أن الصراع حول الهوية في إسبانيا لا يقتصر على قرار محلي بمنع احتفالات المسلمين في المدينة الأندلسية، بل يتجلى أيضاً في النقاش الذي فجّره الحريق الأخير بمسجد- كاتدرائية قرطبة في الثامن من أغسطس.
ففي كلا الحالتين، تبرز معركة سرديات متناقضة: رؤية يمينية – محافظة تسعى إلى ترسيخ هوية كاثوليكية أحادية، وإقصاء الرموز الإسلامية من المجال العام، وتيارات يسارية ومدنية ترى أن الاعتراف بالتعددية التاريخية والثقافية، هو السبيل الوحيد لبناء هوية وطنية جامعة.
وكما كشف قرار خوميّا، هشاشة التعايش في مدينة وُلد فيها ابن عربي، أظهر الحريق في قرطبة، هشاشة الإدارة الثقافية لتراث أندلسي متعدد الطبقات، تحاول قوى اليمين حصره في إطار كنسي صرف.
وبين الحدثين، يتجدّد السؤال المركزي: هل تريد إسبانيا أن تحتفي بجذورها المتنوّعة كقوة للاندماج والتجدّد، أم تستسلم لمحاولات محو ذاكرة أندلسية تُذكّرها دائماً بأنها وطن هويات متشابكة، لا تُختزل في سردية واحدة؟