"شارع الرشيد" أرشيف أجيال بغداد .. تأهيل وتحديثات عمرانية

مجسّم فني لأبنية شارع الرشيد. (2025) - Baghdad Projects
مجسّم فني لأبنية شارع الرشيد. (2025) - Baghdad Projects
بغداد-علي صلاح بلداوي

في يوليو الماضي، مرّت الذكرى 109 على افتتاح شارع الرشيد في قلب بغداد، الشارع الذي لم يكن منذ بداياته طريقاً يكتفي المارّة بعبوره، بل أصبح منذ سنواته الأولى، مركزاً نابضاً يجمع التجارة ودور السينما ومساكن العائلات المعروفة، وفروع كبرى الشركات العالمية.

بعدها تحوّل الشارع إلى نقطة الانطلاق الأبرز لكل تظاهرة أو ثورة أو انقلاب هزّ العاصمة، حتى صار مرآةً لتحوّلات العراق السياسية والاجتماعية.

خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات، كان الشارع نفسه مسرحاً للاحتجاجات الكبرى، سواء ضد تردي الأوضاع المعيشية، أو رفضاً لاتفاقيات حكومية، كما حدث عام 1948، أثناء الانتفاضة العراقية ضد معاهدة "بورتسموث" البريطانية.

عام 1958، عاش الشارع واحدة من أكثر لحظاته دموية، حين جرى سحل جثة الوصي عبد الإله، خال الملك غازي، عقب مذبحة قصر الرحاب التي أنهت العهد الملكي، على يد الضابط عبد الكريم قاسم، الذي لم يكد يمضي عام على حكمه، حتى نجا من محاولة اغتيال وقعت في الشارع نفسه عام 1959.

شارع السراي في قلب بغداد بعد تأهيله
شارع السراي في قلب بغداد بعد تأهيله - Baghdad Projects

إهمال واندثار

وعلى الرغم من الموقع الفريد والتاريخ الحافل للشارع، فإن السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق، جعلته عرضة للإهمال والاندثار. إذ واجهت أبنيته التراثية ذات المعمار المميّز، تآكلاً لا يخفى على أعين المارّة.

ولعل آخر حلقات الإهمال التي طالت شارع الرشيد، كانت في الأوّل من مارس 2023، حين انهار المسرح الشهير "الهلال" بالكامل، ذلك الصرح الذي استضاف على خشبته السيدة أم كلثوم في زيارتها التاريخية لبغداد عام 1932، حيث أحيت حفلات عدّة، وثّقتها الصحافة العراقية بوصفها حدثاً استثنائياً. 

كان في استقبالها حينها، الشاعر معروف الرصافي، الذي ألقى قصيدته المعروفة: "أم كلثوم في فنون الأغاني.. أمّة وحدها بهذا الزمان"، فيما وصلت أسعار تذاكرها آنذاك إلى أرقام غير مسبوقة.

قبلها، شهدت مسارح الشارع عروضاً لعدد من الأسماء اللامعة، مثل نادرة أمين، ومنيرة المهدية، التي غنّت عام 1919 بمصاحبة الأخوين صالح وداود الكويتي، مؤسسي الأغنية العراقية الحديثة.

شكل الأبنية في شارع الرشيد بعد التأهيل
شكل الأبنية في شارع الرشيد بعد التأهيل- Baghdad Projects

أما انهيار مسرح الهلال، فكان نتيجة تهالك بنائه، وغياب الصيانة الدورية من الجهات المعنية، شأنه شأن أبنية أخرى في الشارع تآكلت، حتى اندثرت من الذاكرة؛ بعضها تحوّل إلى مخازن للتجّار، وبعضها الآخر لم يبقَ منه سوى أثر في الصور.

شاهد على تحوّلات المدينة

يُعرف الرشيد بأنه أحد أكثر الشوارع رسوخاً في ذاكرة العراق الحديث. فمنذ أن تمّ شقّ الشارع عام 1915، وافتتح رسمياً في 22 تموز 1916، على يد آخر ولاة بغداد العثمانيين، خليل باشا، صار شاهداً على تحوّلات المدينة، ومسرحاً لأحداثها الكبرى، ومتنفساً لثقافتها وحياتها الاجتماعية. 

عُرف الرشيد حينها باسم "جادة خليل باشا" أو "الجادة العامة"، وتزيّنت جدران مبانيه بلوحات الكاشي الملوّن التي تحمل اسمه، قبل أن يمحوها الزمن وأعمال البناء.

في بداياته، كان الشارع بعرض 16 متراً، رابطاً بين منطقتي الباب المعظم والسيد سلطان علي، وسرعان ما أصبح قلب بغداد الذي يحتضن الأنشطة الاقتصادية والتجارية والإدارية والترفيهية. إذ وصفه المعماري إحسان فتحي، بأنه أول شارع رئيسي يُخطط في العراق وفق المفهوم الحضري الحديث.

من جهة الباب الشرقي، شهد عام 1918 تأسيس شركة جقماقجي لتسجيل الأسطوانات الموسيقية، المؤسسة التي وثّقت تاريخ الغناء العراقي، عبر تسجيلات لأسماء أسطورية مثل محمد القبانجي، ناظم الغزالي، داخل حسن، حضيري أبو عزيز، ناصر حكيم، سليمة باشا، وعفيفة إسكندر.

إحدى الشوارع التاريخية في بغداد بعد التأهيل
إحدى الشوارع التاريخية في بغداد بعد التأهيل - Baghdad Projects

فضاء عمراني

الناقد العراقي ياسين النصير، خصّ الشارع بكتاب صدر بطبعات متعددة، آخرها عن دار أهوار في بغداد (2024)، بعنوان "شارع الرشيد: عين المدينة وناظم النص"، قرأ فيه هذا الشارع البغدادي العريق، لا كفضاء عمراني فحسب، بل كبؤرة سردية وصورة بانورامية، تجسّد ما حدث للعراق كله من تطوّر وارتكاس، في مختلف الميادين. ليس لأنه شارع تاريخي ومهم حمل كل نوى الحداثة في العراق، وإنما لأنه ما من شيء حدث في تاريخ العراق إلا ولشارع الرشيد يد فيه.

يأتي هذا الكتاب ليثير أسئلة أوسع عن وضعية المدينة العربية في حاضرها؛ كأرشيف مادي مهدد بالحروب والفساد والإرهاب، ومُستنزَف أيضاً بسياسات ما يسمى "التحديث" التي انتهجتها الأنظمة العربية الرسمية. تلك السياسات، كما يصفها النصير، نزعت من المدينة بؤرها السردية الصاعدة من قلب المجتمع، لصالح تفكيك النسيج الاجتماعي إلى كيانات عشائرية أو جماعات وظيفية، تخدم حماية مواقع السلطة في الفضاء العام. 

ولعل من أبرز معالم هذه البؤر السردية، التي كانت لشارع الرشيد في أوجه، مقاهيه الشهيرة التي لم تكن مجرد أماكن لشرب القهوة، بل فضاءات ثقافية شكّلت ملامح الحياة الأدبية والفنية في بغداد. فمنذ افتتاح الشارع وازدهاره السريع، أصبحت المقاهي المنتشرة على جانبيه، منتديات للنقاش والإبداع، جذبت الأدباء والكُتّاب والمسرحيين والتشكيليين من بغداد وخارجها. 

من بين هذه الأسماء التي رسخت في الذاكرة البغدادية، مقهى البلدية، وعارف آغا، والزهاوي، وحسن عجمي، والبرلمان، والشابندر، والبرازيلية. كانت تلك المقاهي بمثابة صالونات مفتوحة، حيث تتشكل الأفكار والمشروعات الثقافية، وتولد النقاشات التي تتجاوز حدود الطاولات، إلى فضاء المدينة نفسها، حيث جلس الجواهري والرصافي والبياتي وغائب طعمة فرمان، وتبادلت الأجيال هناك حوارات الفكر والشعر والسياسة. 

صورة ناطقة للعراق المعاصر

على جانبي الشارع، تتجاور العصور وتتداخل الأساليب المعمارية: جامع الحيدر خانة الذي يعود إلى العصر العباسي، جامع مرجان الفخم على الطراز العثماني، وكنيسة مريم العذراء التي صمدت منذ القرن السابع عشر، وإلى جوارها شارع الكنائس الذي احتضن مقرّات الرهبان والقساوسة، حيث اعتاد البغداديون تبادل التهاني في أعياد الميلاد، في مشهد من التعايش.

وفوق ذلك كله، تمتد "الشناشيل" الخشبية المزخرفة من الطوابق الأولى، لتطل بظلالها على المارة. كما أن دور السينما في شارع الرشيد، كان لها حضور طاغٍ، من سينما رويال وسنترال والرشيد، إلى الزوراء والوطني والرافدين. بعضها اندثر، وبعضها تحوّل إلى مسارح أو مجمعّات تجارية.

وصف الكاتب باسم عبد الحميد حمودي في كتابه "شارع الرشيد… صورة ناطقة للعراق المعاصر"، الشارع بأنه روح بغداد، محذراً من أن إهماله وتآكل عماراته ومفاخره المعمارية، يهدد إرثه الحضاري. وأيده كثير من المؤرخين والكُتّاب، منهم أسامة ناصر النقشبندي، الذي أفاض في سرد تاريخه، مؤكّداً أنه لم يكن مجرد شارع، بل ذاكرة مفتوحة على قرن من التحولات.

نبض بغداد

عام 2023، أطلقت الحكومة العراقية مشروع "نبض بغداد"، الذي يهدف إلى إعادة تأهيل مدينة بغداد القديمة، بما تشتمل عليه من المنطقة التي تبدأ بشارع الرشيد، وما يتفرّع منه من شارع المتنبي ومنطقة السراي، التي كانت مركز السلطة العثمانية، وما يجاورها من مناطق شكّلت المركز الرئيس للمدينة التاريخية. 

المشروع كان بادرة لتحسين حال الإهمال الذي طال هذه المنطقة المهمة، وبالفعل أنجز تأهيل شارع المتنبي، والسراي، وبعض المناطق المجاورة، والمرحلة الحالية من المشروع، هي مرحلة شارع الرشيد، التي وصلت إلى نهايات قريبة، حيث من الممكن أن يُعلن عن افتتاح الشارع في القريب، كما أعلن من قبل إدارة المشروع.

كان شارع المتنبي، المعروف بكونه الرئة الثقافية لبغداد، أول المناطق التي شملتها أعمال الإعمار الأخيرة. تمّ ترميمه، فعادت المقاهي والمكتبات إلى نشاطها، تجدّدت فيه الفعاليات الأدبية والموسيقية، ليتحوّل من شارع للكتب إلى حي ثقافي متكامل يستعيد جزءاً من ذاكرة المدينة.

 مثّل ذلك المرحلة الأولى من مشروع التأهيل، تلت ذلك، المرحلة الثانية في شارع السراي، الذي بقي لسنوات مغلقاً على تاريخه ومغلفاً بالغبار، حيث أُعيد تأهيله بحلة تراثية تحافظ على طابعه المعماري، وتنسجم مع خصوصيته التاريخية.

قلب بغداد التاريخي

جاء العاشر من فبراير 2025، موعد الإعلان عن المرحلة الثالثة، لتتجه البوصلة هذه المرّة نحو قلب بغداد التاريخي، شارع الرشيد. تمّ إطلاق المشروع بالتعاون بين رئاسة الوزراء وأمانة بغداد ورابطة المصارف الخاصة ووزارة الثقافة، وجاء متزامناً مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.

شهدت المنطقة الواقعة بين ساحة الميدان وساحة الرصافي، ترميم أكثر من 70 مبنى تراثي، ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم عند إكمال الترميم، ليصل إلى أكثر من ضعفيه على امتداد ثلاثة كيلومترات تقريباً. في المقابل، سقطت 3 بنايات من المشروع، نتيجة تآكلها الشديد الذي وصل إلى حد لا يمكن معه الحفاظ عليها.

يهدف المشروع إلى إعادة الشارع ليكون مركزاً اقتصادياً وثقافياً، يمتلىء بالمكتبات والحرفيين وأصحاب محال الأنتيكات. أما المفاجأة الأهم، فكانت إطلاق مشروع سياحي طموح يتمثّل في تشغيل ترام يربط بين ساحة الميدان ونهاية شارع الرشيد، ليشكل إضافة حديثة تعزّز من مكانة الشارع وتُعيد إليه حيويته.

اعتراضات فنية

إعادة تأهيل الشارع تجاوزت الثمانين بالمئة، وشملت أعمال التجديد شبكات الكهرباء والصرف، إضافة إلى إدخال أنظمة حديثة لمكافحة الحرائق، وتجديد واجهات الأبنية وإضاءتها، وحصول المشروع على قبول واسع بين المواطنين، إلا أن اعتراضات عدّة ظهرت من قبل مختصّين بشأن الجزء الأكثر حساسية في أي عملية ترميم، وهو واجهات المباني وذاكرة المكان.

المعماري العراقي المعروف معاذ الآلوسي، شبّه ما يجري بعمليات "البوتوكس والتبييض"؛ عبارة ترى في تلك المعالجات مجرد تجميلات سطحية، لا تليق بالشارع الذي يُعدّ قلب بغداد التاريخي، ولا ترتقي إلى معايير الذوق والعمارة الأصيلة.

من جانبه، أبدى الباحث زيد عصام استياءً بالغاً مما أسماه "ترميمات مخزية"، تجاوزت حدود الإهمال إلى "التزوير"، حين جرى تأهيل بعض المباني بأساليب لا تتوافق مع البنية الأصلية ولا مع هوية العمارة البغدادية.

أما سعدون الجنابي، صاحب كتاب "رحلة في شارع الرشيد"، فاختار أن يوجّه أسئلته نحو مصير المئات من أصحاب المهن والتجارة، وسائقي الباصات والسيارات التي كانت تمرّ يومياً في الشارع. فبعد إزالة البلاط القديم "الصامد"، من ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والشروع برصفه بالبازلت، بات من الواضح أن الحركة ستقتصر في معظم الأحيان على المشاة، كما هو الحال في الشوارع العالمية المخصّصة للتنزه. 

وهنا يطرح الجنابي تساؤلاً مشروعاً: ما البدائل التي سيتم تقديمها لذوي الأعمال الحرّة، الذين كانوا جزءاً من نبض الشارع لعقود طويلة؟

 

تصنيفات

قصص قد تهمك