مع الاقتراب من المدخل الرئيس لشارع المتنبي في بغداد، تتناهى إلى سمع الزائر أصوات الباعة وهم يروّجون لنسخ جديدة من مختلف الكتب، العالمية منها والعربية وحتى العراقية، بأسعارٍ زهيدة لا تتجاوز ألفي دينار عراقي، ما يعادل نحو دولار ونصف.
يغدو العرض مغرياً لمن يرغب باقتناء أكبر عدد ممكن من الكتب بأقل كلفة. وما إن يخطو الزائر خطوات أبعد، حتى يلمح أكوام الكتب الممتدة على جانبي الشارع، وقد أُتقن تزوير معظمها، إلى درجة تجعلها أقرب ما تكون إلى الأصل، بحيث يصعب على غير الخبير التمييز بينها وبين النسخ الشرعية.
للوهلة الأولى، يبدو المشهد مألوفاً وبريئاً: قارئ عراقي يتفحّص عناوين الإصدارات الجديدة، أو طالب يبحث عن مرجع أكاديمي بثمن مناسب. غير أن ما يختبئ خلف هذه الصورة الظاهرية، يكشف عن إشكاليات أعمق. فمعظم تلك الكتب ليست سوى نسخ مقلّدة، استُنسخت بطرق غير قانونية، تسطو على جهد مؤلفين وناشرين، كرّسوا سنوات في إعدادها وصياغتها.
ميثاق وطني ضد التزوير
في 26 يوليو، أعلنت جمعية الناشرين والكتبيين في العراق، التي تضم في عضويتها أكثر من 90 ناشراً ومسوّقاً، عن "بدء المعركة" ضد التزوير. جاء ذلك من خلال توقيع "وثيقة شرف" وميثاق وطني، يبرّئ الساحة من المقرصنين، ويدعو إلى محاسبتهم قانونياً وأخلاقياً.
تضمّن الميثاق التزاماً صريحاً بحقوق المؤلف والناشر، وتعهداً بدعم الجهات الرسمية في مواجهة التزوير. مع اتخاذ خطوات قانونية عملية ضد المزوّرين، بما في ذلك الإعلان عن أسماء المتورّطين وكشفهم للرأي العام.
كما دعت الجمعية إلى التنسيق مع مديرية الأمن الاقتصادي في وزارة الداخلية، "من أجل إصدار تشريعات جديدة، وإلى تشجيع وزارة الثقافة على خفض أسعار الكتب الأصلية، بما يمنحها فرصة لمنافسة النسخ المزوّرة التي تغزو السوق".
في حديثه لـ"الشرق"، علّق مدير منشورات بيت الكتاب السومري، وعضو جمعية الناشرين والكتبيين في العراق، حسين الجراح، قائلاً: "من الأفضل أن يتم الإعلان عن أسماء المزوّرين أمام السلطات المختصّة، ومنها محكمة النشر، لا أمام الرأي العام فقط. القانون وحده هو الذي يمتلك سلطة المعاقبة، وهو القادر على إنقاذ واقع النشر من هذه الأزمة، خصوصاً بعد أن شهدت بورصة الكتاب، إغلاق عدد من دور النشر أبوابها واكتفت بالعمل من خلال متاجرها الإلكترونية".
ورغم كل هذه الجهود، يظل التحدي قائماً، إذ ما زالت شبكات القرصنة، التي تنشط في مطابع أهلية، متوارية بين أزقّة شارع المتنبي. فهي تستغلّ ضعف الرقابة وانشغال الحكومة بالقضايا الأمنية. وحتى التقنيات الحديثة مثل "الباركود"، التي يفترض أن تسهّل تتبّع مصدر الكتاب، لم تُحدث فارقاً ملموساً أمام أساليب التزوير المتطورة.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً في أن تشكّل هذه الحملة خطوة أولى نحو إجماع ثقافي وطني، يحمي الكتاب العراقي ومهنة النشر من القرصنة والتزوير.
يقول الجراح في ختام حديثه: "نأمل بتغيير الوعي الجمعي للقرّاء وتثقيفهم، حول امتيازات الكتاب الأصلي وسلبيات النسخ المزوّرة، لأن مهنة النشر تمرّ بظروف بالغة الصعوبة بفعل الحروب التي تحيط بالبلاد، والأزمة المالية غير المستقرة. إن استمرار ضخ بورصة الكتاب العراقي بالكتب المزوّرة، سيترك أثراً سلبياً بالغ الخطورة على مستقبل النشر والثقافة".
ظاهرة تاريخية وثقافية
قرصنة الكتب في العراق ليست مجرد تجارة غير مشروعة، بل هي ظاهرة تاريخية وثقافية معقّدة. بدأت الظاهرة كفعل مقاومة في زمن الحصار والقمع، وتحوّلت إلى آفة تهدّد صناعة النشر وتسلب حقوق المبدعين.
تعود جذور هذه التجارة إلى التسعينيات، حين أطبق الحصار الاقتصادي على البلاد بعد حرب الخليج الأولى. إذ لم يكن الحصار مجرد قيود على الغذاء والدواء، بل امتد إلى الثقافة نفسها، ومُنعت الكتب العربية والأجنبية من الوصول إلى العراق.
وفي ظل نظام مستبد كان يراقب كل كلمة مطبوعة، أصبح استنساخ الكتب وسيلة للتحايل على الحظر. كانت يتم تهريب الكتب السياسية والدينية والثقافية من الأردن وسوريا، وتُستنسخ باستخدام آلات تصوير بدائية، وتوزّع سراً بين القرّاء.
كانت القرصنة آنذاك فعلاً بطولياً، تعكس روح العراقيين الذين رفضوا أن يُسلب منهم حقهم في القراءة، مستلهمين تراث بلاد الرافدين الذي شهد ازدهار الكتابة المسمارية قبل آلاف السنين.
لكن مع سقوط النظام في 2003، تغيّرت الديناميكيات. انفتح العراق على العالم، وتدفّقت الكتب العربية والأجنبية إلى الأسواق، خاصة في شارع المتنبي. لكن بدلاً من أن تتوقف القرصنة، تحوّلت إلى تجارة مربحة، استغلت الفراغ القانوني وضعف الرقابة.
أصبح من السهل على أي صاحب مطبعة أو بائع كتب، شراء نسخة واحدة من كتاب، سواء لمؤلف عراقي أو عربي أو أجنبي. كذلك استنساخ آلاف النسخ باستخدام مطابع بدائية تعتمد أجهزة مثل "REZO"، التي تنتج كتباً رديئة الجودة بورق رخيص وحبر ضار بالصحة أحياناً.
أما بالنسبة للقوانين النافذة، مثل قانون حق المؤلف رقم (3) لسنة 1971، وتعديله عام 2004، فهو لا يوفّر الحماية الكافية. فيما تعيق البيروقراطية الإجراءات القانونية، وتجعل المتضررين عاجزين عن استرداد حقوقهم.
يرى بعض الناشرين والمثقفين، أن السبيل الأمثل هو فضح المزوّرين أمام الرأي العام عبر وسائل الإعلام، ما انعكس في حملات أُطلقت عام 2018 تحت شعارات مثل: "التزوير جريمة أخلاقية وقانونية"، و"احذر شراء الكتاب المزوّر". كما سعت هذه المبادرات، إلى توعية القارئ بطرق التعرّف على النسخ المزوّرة، سواء من خلال سعرها الرخيص بشكل غير منطقي، أو رداءة الورق، أو ضعف جودة التجليد والإخراج الفني.
من النَسخ إلى التشويه
يشير الكُتبي بهاء طاهر، إلى أن "التزوير لا يقف عند حدود نسخ الكتاب فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تشويهه والإضرار بجوهره. كثيراً ما يهمل المزوّر أثناء الاستنساخ بعض الصفحات أو الفصول، فيخرج الكتاب ناقصاً ومبتوراً. وحتى إذا حاول التمويه عبر إعادة كتابة النص وطباعته ليبدو أقرب إلى النسخة الأصلية، فإن الأخطاء الإملائية الفادحة سرعان ما تفضح زيفه وتؤكد بطلان محاولته".
مع هذا، يظل شغف العراقيين بالكتب حاضراً بقوة، حيث يتحوّل شارع المتنبي كل يوم جمعة إلى مهرجان ثقافي مفتوح، يستقطب المثقفين والطلاب والبسطاء على حد سواء. غير أن الظروف الاقتصادية الصعبة، والفقر المتفشي، يدفع شريحة واسعة من القرّاء إلى شراء الكتب المزوّرة، التي تُعرض في العلن دون خشية من المساءلة.
ومع أن الوعي بخطورة هذه الممارسة قائم، إلا أن الظاهرة تواصل استفحالها، لاسيما مع التطوّر التكنولوجي الذي جعل عملية التزوير أكثر سهولة وسرعة، بما يشكّل اعتداءً مباشراً على جهد المؤلف والمترجم.