"أسير" الجزائر ثربانتس .. تراكم الأساطير وصعوبة استعادة السيرة

من فيلم "الأسير" (El cautivo) بدأت عروضه في سبتمبر 2025 للمخرج الشهير أليخاندرو أمانابار - الشرق
من فيلم "الأسير" (El cautivo) بدأت عروضه في سبتمبر 2025 للمخرج الشهير أليخاندرو أمانابار - الشرق
مدريد-هلا نسلي

قرون من الدراسات والاحتفالات والمئويات، جعلت من ميغيل دي ثربانتس شخصية محاطة بالالتباس والتأويلات المتناقضة. تمّ تصوير الجندي البسيط والمُغامر البحري والكاتب المتمرّد، بل وحتى المتصوّف أو "الناشط البيئي"، في قراءات حديثة لا تخلو من الإسقاطات. 

لكن هذه الصور كلها، كثيراً ما حجبت جوهر الرجل، كما لو أن غياب المعلومات المؤكّدة في سيرته، أفسح المجال أمام صناعة هالة أسطورية، لا تقلّ غموضاً عن بطله الخالد، دون كيخوتي.

في هذا السياق، صدرت مؤخراً مجموعة من الكتب التي تناولت سيرة صاحب "دون كيخوته دي لا مانشا". قد يكون العمل الضخم الذي أعدّه سانتياغو مونيوث ماتشادو، مدير الأكاديمية الملكية الإسبانية، أبرز هذه الأعمال.

 يمتدّ كتاب "ثربانتس" على أكثر من ألف صفحة، ويطمح وفقاً لمؤلفه، إلى تثبيت بعض "اليقينيات" وسط بحر من الفرضيات والخيالات. يقول: "أردت أن أتناول ميغيل دي ثربانتس من الحقول التي تهمّني: المجتمع الطبقي، والدين، والعلاقات الزوجية، والسحر والقانون".

يضيف: "ثربانتس ليس مجرّد عبقري موهوب من فراغ، إنه ثمرة خبرة حياتية واسعة، وملاحظة دقيقة، ودراسة واعية لما يدور حوله".

كتاب صدر حديثاً عن ثربانتس
كتاب صدر حديثاً عن ثربانتس - critica

الإنسان في زمن التحولات

يعيد كتاب ماتشادو، تركيب صورة ثربانتس من خلال شبكة معقّدة من التفاصيل الاجتماعية والسياسية والفكرية. فهو ابن زمن انتقل من بقايا النظام الإقطاعي إلى بروز المال والسلطة الملكية المطلقة، وشاهد على التوتر بين الحرية الشعبية والسلطة المركزية.

 عاش في قلب مجتمع تغذّيه النزاعات الدينية والرقابة الصارمة للكنيسة، لكنه ظل يلتقط بذكاء التحولّات في العلاقات الإنسانية: الزواج، السلطة، الفقر، الهامش الاجتماعي.

يصف ماتشادو بوضوح موقف ثربانتس من بنيان المجتمع. يقول: "كان يعرف تماماً أن تسلّق السلم الاجتماعي يكاد يكون مستحيلاً. الفساد هو القاعدة، وبيع المناصب أمر شائع. لذلك نراه في أعماله يقدّم نظرة نقدية نافذة لم تتجاوزها كتابات عصره". 

يخصّص الكاتب فصولاً طويلة للحديث عن اهتمام الكاتب بالظواهر السحرية التي كانت متداولة آنذاك، وكيف وظّفها في أعماله لتغذية الخيال وتعميق المفارقات بين الواقع والوهم.

أسير الجزائر

يُظهر الكتاب أن ثربانتس لم يكن بطلاً مثالياً. فقد عرف السجن غير مرّة، وخاض أعمالاً جانبية لجني الرزق، وتعرّض للخيبات في طلباته للعمل بالإدارة أو السفر إلى أميركا.

 ومع ذلك، فإن ما يميّزه هو قدرته على تحويل هذه التجارب كلّها إلى مادة للكتابة، وإلى نسيج سردي متفرّد يخلط النقد بالهزل، والسخرية بالجدية. 

ثربانتس - لوحة للفنان خوان دي خاوريجي
ثربانتس - لوحة للفنان خوان دي خاوريجي -الشرق

قد تكون حادثة أسر ثربانتس على يد القراصنة بعد معركة "نافارين"، ونُقله إلى الجزائر حيث بيع كرهينة الأبرز في حياته. لقد كتب عنها النقّاد كثيراً باعتبارها الفترة الأكثر غموضاً في حياته. يقول ماتشادو: "دفع خاطفوه ثمناً باهظاً لاحتجازه، معتقدين أنه غنيمة ثمينة بفضل رسائل توصية كان يحملها من قادة إسبان. لكن عائلته لم تستطع دفع الفدية سريعاً، فدخل في سلسلة من المحاولات للهروب، باء معظمها بالفشل. عوقب بقسوة، لكنّه لم يفقد عزيمته ولا خياله".

لم تكن سنوات الأسر في الجزائر، بحسب مؤلف العمل، مجرد محنة شخصية؛ كانت مختبراً لتجربة إنسانية شديدة التعقيد. في مواجهة القهر، صقلت شخصيته قدرة استثنائية على التعاطف، وفهماً عميقاً للتنوع البشري. 

من رحم هذه التجربة، وُلدت رؤيته الأدبية التي ستثمر لاحقاً في "دون كيخوتي" وأعمال أخرى، حيث يتجلى حب الحرية والتمرّد على الظلم.

"الأسير" على الشاشة

لم يكن اهتمام الباحثين والنقّاد بتجربة أسر ثربانتس في الجزائر محصوراً بالجانب التاريخي أو الأدبي فحسب؛ فهذه الفترة التي شكّلت جوهر تحوّله الإنساني والأدبي، سرعان ما تحوّلت إلى مادة إبداعية تتلاقى فيها السرديات المكتوبة مع عدسة السينما.

وكما غذّت سنوات الأسر الكثير من الدراسات والقراءات الأدبية، فهي ألهمت أيضاً صُنّاع الأفلام للبحث عن الجانب الحسّي والدرامي لتلك التجربة، وهو ما يتجسّد بوضوح في فيلم "الأسير" (El cautivo) الذي بدأت عروضه من أسبوعين، للمخرج الشهير أليخاندرو أمانابار.

يقدّم الفيلم، الذي ما زال يثير جدلاً كبيراً، أحدث معالجة سينمائية لشخصية ثربانتس، مركزاً على سنوات أسره في الجزائر بعد معركة ليبانتو. يصوّر الكاتب وهو محاط بجدران الأسر لكنه يجد في الحكي وسيلةً للبقاء وحفظ الذات من الانكسار. 

في هذا السياق، يصبح السرد ليس مجرد إبداع أدبي لاحق، بل فِعل مقاومة للحظة القهر. حبكة الفيلم تضع المشاهد أمام رجل يتأرجح بين اليأس والخيال، بين الألم والرغبة في النجاة. هنا يلتقي البعد السينمائي مع ما أكّد عليه ماتشادو: "أن تجربة الأسر والسجن تفسّران نبرة الحرية والمساءلة في أعماله".

وبينما يرسم الكتاب السياق الفكري والاجتماعي الذي أحاط بالكاتب، يجسّد الفيلم البعد الحسّي والإنساني. يغوص في العالم النفسي لثربانتس، وكيف كان يحوّل الحكايات إلى وسيلة للنجاة، وكيف صارت القصص ملاذاً للأسرى الآخرين.

 ضمن هذا كله يقدّم مخرج العمل، أمانابار، الجزائر كمدينة مزدوجة الوجوه: قاسية ومظلمة من جهة، لكنها أيضاً ملتقى حضارات وثقافات من جهة أخرى.

هذا التناول لم يَسلم من النقد. إذ اعتبر الباحث الإسباني جوردي غراسيا أن الفيلم يضيّع زخم بدايته المليئة بالمصداقية التاريخية، حين ينزاح في نصفه الثاني إلى حبكة عاطفية - إيروتيكية تتمحور حول علاقة مثلية مفترضة بين ثربانتس والباشا.

 وبرأي غراسيا، فإن هذا الاختيار يختزل شخصية الكاتب ويغفل ما هو موثوق من بطولاته ومواقفه: محاولاته المتكررة للهروب، تفضيله تحرير أخيه قبله، أو مراسلاته التي تطالب بحملة لإنقاذ الأسرى.

 بالنسبة له، كان الواقع التاريخي لثربانتس أعمق وأكثر درامية من أي حبكة متخيّلة، إذ يكفي أن نضع في الاعتبار أنه جندي جريح وأسير صلب وناقد شجاع، عاد ليكتب روايته "دون كيخوته"، كي ندرك أن الحقيقة وحدها تحمل ما يكفي من قوة سينمائية وأدبية.

ورغم اعتماد الفيلم على عناصر درامية قد لا يثبتها المؤرخون، فإنه يضيء على التوتر الإنساني بين الأسير وسجّانه، وعلى معارك الحرية الداخلية التي لا تقل أهمية عن قيود السلاسل. 

بين التاريخ والخيال

تأتي هذه المعالجات، البحثية والسينمائية، لتذكّر بأن ثربانتس لم يكن أسطورة جامدة. إنه رجل من لحم ودم، عاش تناقضات عصره وحوّلها إلى أدب خالد. 

وإذا كان كتاب سانتياغو مونيوث ماتشادو، يمنحنا صورة بانورامية دقيقة عن المجتمع والسياسة والفكر في القرن السادس عشر، فإن فيلم "الأسير" يفتخ نافذة على التجربة الوجدانية التي غذّت إبداع ثربانتس، وعلى القدرة قراءة التاريخ بشكل مغاير.

 وبين السرد التاريخي على الورق والتجسيد الدرامي على الشاشة، يظل ثربانتس حاضراً إلى اليوم كاتباً عظيماً، لكنه أيضاً إنسان عاش الألم والتجربة قبل أن يحوّلها إلى أدب يلامس خلوداً فريداً.

تصنيفات

قصص قد تهمك