في القرن الخامس عشر أهدى السلطان قايتباي قائد جيوشه سيف بن أزبك، أرضاً جرداء سرعان ما عمّرها فحملت اسمه "حي الأزبكية". وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، انشغل الخديوي إسماعيل بتشييد ما يُعرف الآن بالقاهرة الخديوية، فأنشأ دار الأوبرا الملكية ـ احترقت لاحقاً ـ وبجوارها حديقة الأزبكية، وجلب لها أشجاراً ونباتات نادرة.
أصبحت تلك المنطقة ملتقى الفنانين والمثقفين. ثم راح البعض يضعون الكتب القديمة والمستعملة في بسطات حول السور الدائري، المحيط بحديقة الأزبكية منذ عام 1907، على الرغم من مطاردة البلدية.
مع مرور الزمن، تحوّلت تلك البسطات إلى "أكشاك" صغيرة للكتب المستعملة والنادرة، ومجلدات التراث والأدب العالمي المترجم والمجلات والصحف.
أصبح سور الأزبكية المخزن الاستراتيجي الذي يُعاد فيه تدوير آلاف العناوين بيعاً وشراء بأسعار زهيدة في مصر. وتُمثل مكتباته في معرض القاهرة الدولي للكتاب بجناح خاص بها. ولم يعد هناك غنى لأي مثقف عن زيارة السور، بحثًا عن نوادر الكتب أو سلاسل مفقودة.
في تسعينيات القرن الماضي، وبينما السور يوشك أن يُكمل عامه المئة على قرار نقله ناحية حي الحسين، بسبب مدّ شبكة مترو الأنفاق إلى محطة العتبة الملاصقة لحديقة الأزبكية.
بعد افتتاح المحطة وزحام الركّاب، عاد أصحاب سور الأزبكية ليزاحموا الباعة الجوالين الذين يبيعون الأجهزة الإلكترونية والملابس والأدوات المنزلية الرخيصة.
أصبح الزحام لا يطاق والعشوائية تطال كل شيء، فاختفى مدخل المسرح القومي والحديقة التي غنّت أم كلثوم على مسرحها أشهر حفلاتها. بدت كأنها أطلال منسية.
طراز إسلامي
سعت محافظة القاهرة بالتعاون مع وزارة الإسكان، إلى إعادة تصميم سور الأزبكية للكتب بشكل حضاري في مدخل الحديقة. إذ يضم نحو 133 "كشكاً" من طراز متطابق، مستوحى من العمارة الإسلامية وتصاميم الأرابيسك. تربط بين الأكشاك ممرّات للجمهور، تحمل أسماء كبار المفكرين والمبدعين مثل طه حسين وأنيس منصور ويوسف إدريس وآخرين.
تحمل أروقة وممرّات السور أسماء كبار المفكّرين والمبدعين على سبيل التحية لهم، لأن مؤلفاتهم هي التي حافظت على نشاط السوق لأكثر من مئة عام. لكن حركة الجمهور بين الممرات والأكشاك الجديدة، مازالت دون المعتاد بانتظار الافتتاح الرسمي.
لم يتم افتتاح سور الكتب بتصميمه الجديد بعد، وإنما مازال تحت التجريب بانتظار استكمال تطوير الحديقة.
شابّة وحيدة
خلال جولة بين أروقة السور في حلته الجديدة، التقينا هبة كرم فوزي الشابة الوحيدة التي تعمل وسط الباعة، بالوراثة عن والدها الراحل الذي شجّعها منذ أن كانت طفلة، كي تساعده في ترتيب الكتب وتصنيفها والتعرّف على سرّ المهنة.
وعن سبب تمسّكها بمجال هو حكر على الرجال قالت: "أبي كان من أشهر تجّار الكتب في سور الأزبكية، لكنه توفي فجأة وكنا أربع بنات وولد، فوجدت نفسي أتحمل مسؤولية إخوتي".
تتابع: "في البداية كنت أستغرب من عمل أبي في الكتب، لكنه زرع فينا حب هذه المهنة، لأنه كان يحترم الكتب والكُتّاب. ولا أنسى وفاة أبي عشية افتتاح معرض القاهرة للكتاب، فوجدت نفسي مضطرة للوقوف بدلاً منه واستقبال الجمهور".
هبة كرم حالة نادرة في سوق الأزبكية. نجحت في كسب ثقة التجّار وتمّ اختيارها أمينة صندوق جمعيتهم. وعن ذلك تقول: "في البداية استاء البعض واستغربوا من وجود فتاة وسط الرجال والشباب، وهناك من تجنبني، لكن أيضاً هناك من ساعدني وشجعني، واليوم صار لي في المجال نحو عشرين سنة".
وحول أسعار الكتب في السور قالت: "البعض يتصوّر أن سور الأزبكية متخصّص فقط في الكتب القديمة والمستعملة، لكن الحقيقة أننا نبيع أيضاً الكتب الجديدة وسعرها يختلف بحسب الناشر واسم المؤلف".
وشرحت طريقة التسعير بأنها تتعلق بالعرض والطلب. "هناك كتب يبدأ سعرها من ثلاثة جنيهات ويصل إلى ألوف الجنيهات، خصوصاً أمهات الكتب النادرة لكن الميزة أن أسعارنا أقل من أي دار نشر لأننا نعتبر سور الأزبكية قبلة الغني والفقير. ببساطة أي كتاب هنا يمكن أن تعثر عليه بعشرة جنيهات وتجد طبعة أخرى منه بمئة جنيه في مكتبة مجاورة".
روايات أجنبية
من "دار الروضة" و"ركن الكتب" تحدثنا مع محمد مجدي المهتم بتوفير الكتب الأجنبية، سواء الروايات أو كتب علم النفس والتنمية، مع مراعاة فئة الشباب التي تفضل القراءة بالإنجليزية.
عما يميّزه عن دور النشر المعروفة قال مجدي: "الكتب الأجنبية أسعارها مرتفعة وليس في مقدور البعض شراءها، لذلك نوفرها هنا بأسعار رخيصة تبدأ من خمسين جنيهاً".
وعن العناوين الأكثر مبيعاً أوضح أنها كتب روبرت غرين وسلسلة هاري بوتر وشارلوك هولمز وأغاثا كريستي وكتب التنمية الذاتية.
ونفى المسؤول في مكتبة "دار الروضة" تراجع الطلب على الكتاب الورقي والمستعمل، "ومازالت هناك شريحة لا تفضل قراءة النسخ الإلكترونية، وتحب أن تمسك الكتاب بيديها وهي تقرأ".
كُتب المدارس المعتمدة والمتخصّصة في شرح المناهج للمراحل الإعدادية والثانوية أصبحت باهظة الثمن، ويصعب على الأسر المصرية توفيرها لذلك قرر "الحاج رمضان" أن تتخصص فيها مكتبة "أولاد رمضان" يقول: "نبيع كتب الأزهر وكتب المدارس بحالة جديدة تماماً. في الوقت نفسه نبيعها بنصف الثمن المكتوب عليها. واخترنا هذا التخصص لأن آلاف الأسر تبحث عنها ولا تستطيع شراء النسخ الجديدة منها".
خمسة جنيهات
وصلنا في جولتنا إلى مكتبة "النور المحمدي"، والتقينا محمد عاطف ابن صاحب المكتبة الذي أكد حبه لمهنة بيع الكتب بالوراثة، متفائلاً بالمقر الجديد لسور الأزبكية قائلاً: "كلنا سعداء بالتنظيم الجميل وعزل سور الأزبكية بعيداً عن المطاعم وزحام الباعة في العتبة، لكن يعيب الأكشاك أنها ضيقة نسبياً، ولا تستطيع استيعاب جميع الكتب التي يبحث عنها القرّاء. لذلك نسجل طلباتهم وأرقام هواتفهم كي نوفّر لهم الكتب التي يسألون عنها".
ونفى عاطف أن تكون النقلة الجديدة أدت إلى زيادة الأسعار موضحاً "أن سور الأزبكية ما زال يتبع التقاليد نفسها منذ أكثر من مئة عام، وأسعاره لا تقارن بأي مكان آخر. يستطيع القارئ أن يعثر على الكتاب بخمسة وعشرة جنيهات أي بثمن ساندويش فول".
أثناء وقوفنا مع محمد عاطف سأله أحد الزبائن وهو رجل خمسيني عن كتاب "السلام الضائع" لوزير الخارجية الأسبق محمد إبراهيم كامل، واتفقا على توفيره له غداً مشيراً إلى وجود صفحات خاصة بالمكتبة في وسائل التواصل، يمكن طلب الكتب من خلالها مع تحميل خدمة التوصيل على ثمن الكتاب.
نوادر الصحف
تحمل مكتبة إسلام عبد الحكيم اسم "سور الأزبكية"، منذ أن أنشأها والده بالشراكة مع شقيقه قبل نحو 50 عاماً. وقال إسلام: "كلنا استبشرنا خيرنا بنقل المكتبات للمقر الجديد، وبدأنا إعداد الأرفف ووضع كتبنا فيها، وبدأ الزبون يأتي إلينا".
حول نوعية الكتب المفضّلة لدى الجمهور قال: "الكتب بحر كبير مهما جمعنا منها، فهو لا شيء خصوصاً كتب الأدب والفلسفة وعلم النفس والسياسة والأعمال الكاملة والقواميس والتراث الإسلامي ونوادر الصحف والمجلات ،وإن كان الشباب حالياً يفضّل الروايات أكثر من أي شيء آخر".
يعترف إسلام بأن ذوق القرّاء يتغير ويختلف من زمن إلى آخر، وخصوصاً أن الناس الآن تتأثر بالترند والدعاية في وسائل التواصل. فلم تعد تبحث عن العقاد وطه حسين وإنما عن الرائج الآن".
وعن اهتمامه بنوادر الصحف والمجلات قال إسلام: بعض الباحثين يحتاجون إلى أعداد معيّنة من المجلات، وهناك صحف تنشر مذكرات نادرة الآن فمثلاً لدي أعداد نشرت مذكرات الخديوي عباس حلمي الثاني. وتباع النسخة الواحدة من الصحيفة بأكثر من ألف جنيه. والسعر طبعاً يرتفع حسب ندرة النسخة وشدة الطلب عليها".