تحتفي مصر بمرور 100 عام على ولادة إحدى رائدات الفن التشكيلي جاذبية سري، التي أسهمت في تطوير الفن المصري الحديث، وامتدت مسيرتها لأكثر من 70 عاماً، شهدت فيها التحولات التي لحقت بمصر خلال القرن العشرين.
وبالمناسبة نظّمت قاعة الزمالك معرضاً بعنوان: "مئوية جاذبية سري 1925 -2025". ضمّ المعرض 70 لوحة تنتمي إلى مختلف مراحلها الفنية، كما عرض جزءاً من أدواتها الخاصة وألوانها التي استخدمتها.
الريشة الثائرة
وقال الكاتب محمد سلماوي في كلمته عن الفنانة خلال الندوة التي نظمتها قاعة الزمالك للفن: "في منتصف القرن العشرين، حين كانت مصر تطل على أفق جديد مع ثورة يوليو 1925، كانت هناك ريشة امرأة ثائرة تبحث عن لغة بصرية جديدة. كانت قادرة على التقاط هذا التحوّل العميق الذي لم يكن سياسياً فحسب، بل وجودياً أيضاً".
أضاف: "تلك الريشة كانت لفتاة ولدت لعائلة مترفة، لكنها ارتبطت بالواقع الذى كان يموج من حولها بالتفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية" .
واستعرض سلماوي مراحل تطور جاذبية الفني قائلاً: "بمرور السنوات، بدأت تتجه صوب المدرسة التجريدية وتبتعد عن التصويرية، متأثرة بالتعبيرية التجريدية التي اكتشفتها في رحلتها الأميركية، ونجحت في أن تخضعها لإرادتها الفنية، وطوّعتها للواقع المصري الذى ارتبطت به".
بداية مسيرتها
" الفن هو حياتي".. عبارة ردّدتها الفنانة في لقاءتها المتعددة على مدار مسيرتها، إذ كان بمثابة الرفيق في مختلف مراحلها، وتجاوز تأثيرها القطر المصري وانتشرت لوحاتها في دول العالم .
في قلب محافظة القاهرة، نشأت جاذبية سري في حي الحلمية، ثم انتقلت إلى حي المنيل بعد وفاة والدها وهي في سن صغيرة.
قالت في حوار تلفزيوني سابق مع الشاعر الراحل فاروق شوشة، أنها كانت محظوظة لنشأتها في أسرة تقدّر الفنون. كما تعددت لقاءاتها خلال بداية مسيرتها بالفنانين محمود سعيد وراغب عياد، وهما من رموز الحركة التشكيلية المصرية، ما شجّعها على تكريس أسلوبها الفني .
تخرّجت من المعهد العالى للبنات قسم الفنون الجميلة عام 1948، وحصلت على دبلوم إجازة التدريس فى التربية الفنية عام 1949. كسرت الفنانة الراحلة الحواجز التقليدية في الفن حيث كانت ترى أن الفن لابد أن يعبّر عما بداخل الإنسان ولا يتقيد بأي قوالب، وتلك هي الفلسفة التي اعتمدت عليها في تدريسها الرسم لطلابها سواء في الجامعة الأمريكية أو بكلية التربية الفنية.
ساهمت دراستها خارج مصر في احتكاكها بالمدارس الفنية المختلفة بداية بحصولها على شهادة الدراسات العليا في باريس 1951 مرورا بدراستها للفن في لندن وروما خلال الفترة من 1952 حتى 1955.
وقال الفنان التشكيلي محمد عبلة: "إن دراسة جاذبية سري للفن في مختلف دول العالم ساهم في تطوّر شخصيتها الفنية".
وأكد أنها "كانت جريئة في استخدام الألوان، وتجلى ذلك من خلال انتقالها من مرحلة الرسم التعبيري إلى المرحلة التجريدية. كما أسهمت في تقديم وجهة نظر حديثة للفن الشعبي المصري، من خلال رسم الشخصيات في الموالد على سبيل المثال .
حمل الفن الشعبي مكانة خاصة في قلب جاذبية سري، وكانت تزور الموالد الشعبية باستمرار، ورسمت تفاصيلها وشخصياتها المختلفة بأساليب حديثة. كما أبدت إعجابها الكبير بأوبريت الليلة الكبيرة، التي أبدع كلماتها الفنان المعروف صلاح جاهين .
احتلت "قضايا المرأة "مكانة خاصة في أعمالها الفنية. ويوضح سلماوي "أنه فى كل إمرأة رسمتها جاذبية فى تلك الفترة كانت تختبئ صورة مصر كما أرادتها الثورة: قوية، معطاءة، متجذرة في الأرض".
وتابع:" كانت المرأة المصرية فى أعمالها أشبه بنبع يفيض خصباً وصموداً، تحمل في نظراتها عناد النيل، وفى وقفتها كبرياء الفلاحة. لم تكن المرأة عند جاذبية مجرد موضوع فني، بل كائن أسطوري يحمل في طياته خصوبة النيل وإصرار الشعب على النهوض. في لوحاتها نلمح مزيجاً من الحنان والشموخ، من الأنوثة والقوة".
واعتبر سلماوي أن تجربة الراحلة "تحوّلت إلى ما يشبه سيرة ذاتية للوطن. كانت تروي فصوله بالألوان بدلاً من الحروف. فكل مرحلة سياسية أو اجتماعية مرت بها البلاد انعكست على لوحاتها: من الواقع المأسوي فى الأربعينات إلى التفاؤل الجماعي في الخمسينيات، والانطلاق الثوري في الستينات".
انعكست تداعيات النكسة عام 1967 على أعمال الفنانة، وتجلى ذلك في رسوماتها للمنازل المغلقة والحزينة. و اختلف هذا الشعور عام 1973 بانتصار أكتوبر العظيم، حيث عكست لوحاتها حالة البهجة التي عاشتها مصر باسترداد أرضها .
الانتشار عالمياً
انتشر فن جاذبية سري في العديد من المعارض الفنية حول العالم على مدار مسيرتها الفنية، وعرضت لوحاتها في إيطاليا وفرنسا وأميركا وألمانيا وإسبانيا وغيرها من الدول العربية والأفريقية.
كما اقتنى متحف متروبوليتان لوحة "الطائرة" التي رسمتها عام 1960 لفتاة تحمل طائرة ورقية. تُعرض هذه اللوحة حالياً في قاعة الفن الحديث. رحلت الفنانة جابية سري عن عالمنا عام 2021 وتركت إرثا فنياً خالداً.









