ما الذي حدث لضمير أوروبا تجاه فلسطين؟

الكاتب الهولندي موريتس دي براون يتحدث أمام آلاف المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين. 18 مايو 2025 - رويترز
الكاتب الهولندي موريتس دي براون يتحدث أمام آلاف المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين. 18 مايو 2025 - رويترز
أمستردام-علي عباس

يمثّل كتاب المؤلف الهولندي ماوريتس دي براون "الضمير: عن إسرائيل وفلسطين"، امتيازاً في الأدب الهولندي المعاصر، إذ يخرج من إطار النزاع الشرق-أوسطي، ليتوجّه مباشرة إلى سؤال أعمق: ما الذي حدث لضمير أوروبا؟ 

الكتاب الصادر عن الدار الهولندية "داس ماخ" 2025، هو عمل أدبي وفلسفي معاً، يتناول المأزق الأخلاقي لأوروبا، في ضوء الحرب الإسرائيلية على غزة.

يكتب دي براون من داخل الثقافة الغربية، لكنه يُدرك أن هذا الانتماء نفسه قد تحوّل في قضية فلسطين إلى شكل من التواطؤ المؤسّس.

يستهل كتابه: "ليست المشكلة في السياسة وحدها، بل في ضمير فقد القدرة على رؤية نفسه في "الآخر". وهكذا، يغدو الكتاب عملاً عن أوروبا ذاتها، أكثر من كونه عملاً عن فلسطين، وعن المسؤولية الأخلاقية قبل أن يكون عن السياسة".

غلاف كتاب الضمير للكاتب الهولندي
غلاف كتاب الضمير للكاتب الهولندي - ilfu.com

يبحث المؤلف في مفاهيم مثل الذنب والسكوت والتواطؤ، مستخدماً لغة مقتصدة، لكنها تصيب جوهر المسألة. يقول: "أنا لا أكتب عن إسرائيل، بل عنّا نحن، الذين نقف بعيداً، ونحسب أننا أبرياء لأننا لم نطلق الرصاص".

 هكذا، يربط دي براون بين الذنب الفردي والذنب الجماعي في الضمير الأوروبي الحديث. كاشفاً أن أوروبا، في تبريرها للعنف ضدّ الفلسطينيين، تفقد آخر ملامح إنسانيتها التي تشكّلت بعد الحرب العالمية الثانية.

الهوية اليهودية والموقع الأخلاقي

وُلِد ماوريتس دي براون عام 1984 في مدينة "لايدن" الهولندية، في أسرة يهودية علمانية منحدرة من ناجين من المحرقة. وعليه، يمنحه هذا الأصل قوّة استثنائية، لأنه يتحدث من داخل الذاكرة اليهودية الأوروبية لا من خارجها.

يقول في أحد حواراته: "أن تكون يهودياً اليوم، لا يعني أن تكرّر الألم، بل أن تمنع حدوثه لغيرك".

ينتمي دي براون إلى الجيل الذي نشأ على أخلاق "عدم تكرار" المأساة بعد الهولوكوست. غير أنه يرى أن هذا الشعار الأخلاقي انقلب. وبرأيه لم يَعُد هناك"لن يتكرّر أبداً" وعداً للإنسانية جمعاء، بل امتيازاً قومياً يُستخدم لتبرير الصمت أمام الضحايا الجدد.

من هنا يكتسب خطابه بعداً مزدوجاً: نقداً للسياسة، ونقداً للضمير الذي يتواطأ باسم الأخلاق نفسها. بهذا المعنى، فإن دي براون يوسّع معنى "الهوية اليهودية" لتصبح هوية إنسانية كونية، لا تُقاس بالانتماء الديني، بل بالقدرة على مساءلة الذات. 

الكاتب الهولندي ماوريتس دي براون
الكاتب الهولندي ماوريتس دي براون -  ilfu.com

إنه يستعيد جوهر الفكرة التي عبّر عنها الفيلسوف إيمانويل ليفيناس، حين جعل من "الآخر" مبدأً للضمير.

يكتب دي براون: "أخشى أن تكون الذاكرة التي وُلدت لمنع الكراهية، قد تحوّلت إلى جدار جديد يمنع التعاطف والمحبة".

أصبح موقع الكاتب في المشهد الهولندي، صوتاً نادراً يواجه من داخل الثقافة الأوروبية الانفصام، بين القيم المعلنة والممارسة الواقعية. فهو لا يدوّن الأحداث وحسب، بل يؤرّخ لتحوّل الضمير الأوروبي من الداخل.

بنية الكتاب 

يُبنى الكتاب على مجموعة من التأملات الشخصية والسرديات القصيرة. تتقاطع فيها الذاكرة الذاتية مع النقد الثقافي. فلا يقدّم بحثاً سياسياً، بل تجربة وجدانية مكتوبة بلغة هادئة ومكثّفة، تكشف هشاشة الإنسان الغربي أمام المأساة.

يقول في كتابه: "كل صمت هو اختيار، وكل اختيار هو مسؤولية". كذلك يرى أن "العار لا يبدأ بالقتل، بل يبدأ عندما نرى ولا نكترث".

يُعيد الكاتب توجيه السؤال من السياسة إلى الأخلاق، ومن الشرق الأوسط إلى أوروبا نفسها. فالضمير عنده "ليس موقفاً سياسياً، بل مرآة للذات الغربية التي لم تتعلّم من تاريخها سوى تبرير الألم بلغة التعقّل والاتزان".

يضيف: "حين يصبح الضمير موضوعاً للنقاش، يكون قد مات. الضمير الحيّ لا يحتاج إلى تبرير بل إلى إصغاء".

 ليس "الضمير: عن إسرائيل وفلسطين" كتاباً عن فلسطين فقط، بل عن انكشاف الضمير الأوروبي أمام المأساة الفلسطينية. وعن تلك اللحظة التي يفقد فيها الغرب قدرته على تحكيم ضميره.

الضمير مساءلة للذات الأوروبية

يقدّم دي براون عملاً يتجاوز حدود الأدب السياسي، ليصبح محاكمة فلسفية للوعي الأوروبي. إذ لا يكتفي بإدانة الاحتلال الإسرائيلي، بل يُسائل الذات الأوروبية عن صمتها المزمن. "ما الذي نفعله نحن حين نصمت؟"

 هكذا، يبدأ تحطيم ما يسميه النقّاد "الأسطورة الأخلاقية للهولنديين"، أي تلك الصورة التي تجعل من هولندا بلداً متعاطفاً مع كل ضحايا العالم، ما عدا الفلسطينيين.

ولخّص الناقد رولاند سبراي هذه المفارقة بقوله: "يضع دي براون إصبعه على الجرح: الضمير التقدمي الهولندي الذي يُبدي التعاطف مع الجميع، باستثناء الفلسطينيين".

وفي مقابلة مع مجلة "مساء الجمعة"، قال دي براون بوضوح لافت:" لست خائفاً من استعمال كلمة الفصل العنصري. فمن ينظر بصدق يرى أن هناك نظامين قانونيَّن في بلدٍ واحد؟

 تمثّل هذه الجرأة كسراً للتابو الإسرائيلي داخل الخطاب الأوروبي، لأنها تصدر عن كاتب يهودي يدرك حساسية المصطلح، ومع ذلك يختار المواجهة الأخلاقية. فيستعيد النصّ صدى اللحظة التاريخية التي وصفها الفيلسوف بول هازار في كتابه "أزمة الضمير الأوروبي" بقوله: "وأخذت العقول تسأل: أيُثبتون على ما ورثوا من الإيمان، أم يتّبعون ضمائرَهم الحرّة؟ أيستمعون لصوت الكنيسة، أم لصوت الضمير في أعماقهم؟"

إن ما رآه هازار لحظةَ ولادة الضمير الأوروبي من صراع بين الكنيسة والعقل، يتكشّف اليوم عند دي براون بوصفه تاريخانية جديدة للضمير. ضمير بدأ بالتحرّر من السلطة الدينية، لينتهي أسير السلطة السياسية والأيديولوجية.

هذه "التاريخانية الأخلاقية" تكشف أن الضمير الأوروبي لم يعد مرجعاً كونياً، بل تجربة محلية مشروطة بتاريخها ومصالحها. هنا يلتقي دي براون مع إيميه سيزير الذي وصف في كتابه "خطاب عن الاستعمار" المرض البنيوي في الحضارة الغربية بقوله: "إن ما يسمّى بالحضارة الأوروبية، هو في جوهره حضارة مريضة، لأنها تقوم على نسيان تأسيسي، هو نسيان الإنسان حين يكون غير أوروبي".

إن ما سمّاه سيزير "العار التأسيسي" يجد امتداده عند دي براون، الذي يرى أن العار الجديد هو صمت الضمير الغربي أمام الإبادة، حين تقع خارج حدوده: "نحن نعرف كل شيء، ومع ذلك لا نفعل شيئاً. المعرفة من دون ضمير ليست نوراً، بل تواطؤاً". 

أما الكاتبة والناقدة فان دن كرومنكر، فقدّمت قراءة أنطولوجية دقيقة للكتاب "يكتب من موقع الخجل والحب معاً".

وترى أن الخجل والحب ليسا مشاعر، بل بنية وجودية يسعى من خلالها الكاتب، إلى تجاوز الإثم الجماعي الغربي عبر الاعتراف. فالخجل هو ما يوقظ الوعي، بينما الحب هو ما يمنحه القدرة على البقاء إنساناً وسط الانهيار الأخلاقي.

 هكذا، يصبح "الضمير" بحثاً في التحوّل الأنطولوجي للأخلاق لا في السياسة وحدها. فالكاتب لا يُدين نظاماً بعينه، بل البنية الأخلاقية التي تجعل من الصمت فضيلة، ومن الاتزان غطاء للامبالاة.

يكشف كتاب "الضمير: عن إسرائيل وفلسطين" أن الأزمة التي تواجهها أوروبا اليوم ليست سياسية بقدر ما هي أخلاقية في جوهرها. يقول: "حين يصبح الصمت لغة جماعية، يفقد الكلام معناه.. الضمير ليس ما نقوله، بل ما لا نستطيع السكوت عنه".

من هنا تكتسب شهادته قيمة أخلاقية فريدة، لأنه يتكلم من داخل التجربة الأوروبية التي صاغت مفهوم الضمير الحديث، ليُظهر أن هذا الضمير لم يَعُد قادراً على الاعتراف بضحاياه، فيعيد كتابة الضمير الأوروبي بلغة الاعتراف بعد أن أُنهك بلغة التبرير.

تصنيفات

قصص قد تهمك