علاء البابا فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين. يعيد من خلال لوحاته، إنتاج المخيم، محوّلاً عناصر الحياة اليومية فيه إلى لغة بصرية غنية بالألوان والدلالات.
تلقّى البابا، المولود في القدس عام 1984، تدريبه المبكر في منتدى الفنون البصرية في رام الله، قبل أن يتابع دراسته في الأكاديمية الدولية للفنون – فلسطين، بمنحة دراسية من جامعة (KHiO) في النرويج.
غير أن المنعطف الحاسم في مساره كان في أزقّة المخيم. ففي عام 2011، أسّس "مرسم ع الحيط" في مخيم الأمعري برام الله، وحوّل المساحة الضيّقة إلى مساحة إنتاج وعرض، تتداخل فيها الأزقة والبيوت مع الذاكرة.
أنجز البابا أعمالاً فنية وجداريات في فلسطين، ولبنان، وإسبانيا، والنرويج، والأردن، ترتبط جميعها بسؤال العلاقة بين الجسد، والذاكرة، والمكان.
"الشرق" التقت الفنان البابا في مرسمه في رام الله، وحاورته حول أعماله وواقع الفن في فلسطين.
كيف تختلف علاقتك بالمخيم كابنٍ له عن علاقة الفنان الذي يأتي إليه من الخارج؟
المخيم بالنسبة لي ليس مكاناً للسكن، بل ذاكرة وتجربة اجتماعية متكاملة. الأطفال يتعلمون العيش معاً ضمن مساحة محدودة. المخيم أنتج حالة وجودية جديدة، والهندسة التي نشأت في المخيم لم تكن عشوائية، بل نابعة من طريقة تعامل الناس مع بعضهم. مثلًا، كان يجب أن تكون نافذة المطبخ كبيرة ومنخفضة، كي تتواصل الجارات. كل هذا ظهر في لوحاتي: التلاصق المعماري الالتصاق الاجتماعي، الدفء، الأمان، وكل التفاصيل التي تعكس الحياة اليومية.
بدأت مشروعك الأول "ع الحيط" بالرسم على الجدران. ما الذي جذبك نحو الجدار كمساحة أولى؟
اعتقادي دائماً أن فن الشارع يصل إلى الجميع. من هنا فكّرت أن أول مساحة للتعبير هي الجدران. الدمج جزء أساسي ويقوم على التضاد بين عالمين. شكّلت محاولة إيجاد هذه العلاقة وتوظيفها لطرح رؤيتي، ثم أصبحت الرؤية أوضح والقدرة على تجاوز المصاعب أسهل.
تأسيس مرسمك داخل مخيم الأمعري عام 2010 خطوة مصيرية في تجربتك الفنية، كيف ذلك في ظل قراءتك للامتداد الزمني للمخيم؟
المخيم هو البيئة التي أعيش فيها، حيث تكوّنت هويتي الذاتية. ما أرغب بقوله ينبع منها. لذلك، كان من المهم أن يكون المرسم داخل المخيم، وأن يكون هو ذاته مساحة للعرض.
العمارة تعكس الكثافة، حيث تحوّلت فكرة "المؤقت" المرتبطة بها إلى حالة طويلة الأمد. انعكست فكرة أننا موجودون هنا بشكل مؤقت، التي يحملها الجيل الأول، وفكرة التعايش مع الأمر الواقع التي يحملها الجيل الثاني، على المعمار في المخيم.
ذكرت أن المكان ضيّق، ومع ذلك أقمت معرضين فيه. ما أهمية أن يُقام معرض داخل غرفة صغيرة بدل صالة عرض كلاسيكية؟
المكان ضيّق، ويعدّ الأصعب لإيجاد مساحة للفن في ظل الظروف الاجتماعية القائمة. المختلف لدى الجمهور، هو التغيير في مكان وشكل قاعة العرض، إضافة إلى ما يمنحه ذلك من فرصة لزيارة المكان الذي يُنتج فيه الفنان أعماله. لم يتخيّل أحد أن تكون مشاهدة معرض تجربة الدخول الأولى إليه.
بالنسبة لي، هذا المشروع محاولة لتسليط الضوء على المخيم، لحثّ الناس على زيارته، وإيجاد علاقة معه. كانت تجربة "زاوية غاليري" من أهم تجاربي مع الجمهور.
ترسم المخيم بألوان زاهية خلافاً لصورته النمطية، وبعيداً عن قسوة الخلفيات التي تأثرت بها مثل رواية "حليب التين" لسامية عيسى. هل هو نقد معماري أم إعادة تعريف خيالي للمكان؟
رواية "حليب التين" سيرة ذاتية كاشفة من ناحية اشتغالها الجريء على مفهوم الخصوصية. استلهمت منها عملي على سيكولوجية الأنثى داخل المخيم، ما دعاني للاهتمام بالمطبخ وحميمية عالم النساء فيه. المطبخ يكشف البنية الاقتصادية والاجتماعية. تركيبته، أدواته، عشوائيته، كلّها تفضح الواقع.
ما أقدّمه ليس خطاباً مباشراً، بل كشف للتفاصيل غير المرئية: المطبخ، الذاكرة، غياب الشمس، الالتصاق، الكثافة. هذه التفاصيل هي التي تمنح العمل قدرته على التأثير. في المحصّلة، تظل المساحة التي أعمل فيها أشبه بدفتر اسكتشات: لا يوجد شيء مكتمل، كل شيء عالق في حالة انتظار. حتى وجود الفيل في المرسم كان لافتاً، لأنه عنصر غير متوقع في فضاء كهذا.
ما جعل الكتاب حاضراً بقوة لديّ اليوم، هو ما يحدث في غزة، حيث تُستلب الخصوصية دون الحد الأدنى من الشروط الإنسانية.
مشروع "مسار السمك" امتد داخل فلسطين وخارجها، وفيه تشبِّه اللاجئ بالسمكة والفضاء الضيّق بعلبة السردين. هل تنطلق أعمالك من بناء علاقة بين الجسد والمكان المغلق؟
يمثّل هذا المشروع سيرة ذاتية وجماعية معاً. ولدت التشبيهات من خلال البحث عن علاقتي الشخصية مع اللجوء، وعلاقات الارتباط بين المخيم حيث ولدت، والبحر، المكان المتخيّل الذي يحمل حلم العودة.
الرموز في عملي ليست مجرد أشكال. السمكة، تعبّر عن أشياء عدّة. فهي ترمز إلى تكرار أجيال اللاجئين ولها علاقة بالبحر، باللجوء، بالبيئة، وبالسؤال. السلحفاة تحيل إلى مفهوم الحركة البطيئة؛ بطء زمن اللاجئ وأفق الحل السياسي، واستمرار الحياة بالمخيم بعد 77 عاماً من النكبة.
الرموز ليست مجرد تجريدات، بل وسائل لفهم المخيم واللاجئين؟
بالضبط. المخيم مليء بالقصص والجذور، وأنا أعيد إنتاج هذه الذاكرة. كل لوحة تحمل تفاصيل المخيم والألوان ليست مجرد زينة، بل تعبير عن الحياة، والخصوصية، والروح في المخيم.
يبدو توظيف الكولاج في أعمالك صادماً، كيف تعكس هذه التقنية ذاكرة المخيم والرائحة؟
في لوحة مستوحاة من إعلان عطر، استبدلت الخلفية الدعائية بشبّاك المخيم الحديدي القديم. وفي لوحة عشاء رومانسي في باريس، استبدلت الإطلالة الباريسية بمشهد عمومي للمخيم. أريد للصورة أن تنقل إحساساً صادماً.
ضمن مشروعك، أعدت تقديم أعمال التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج – تحديداً في معرض "أصداء الأرض" ما الذي وجدته فيه؟
لهذا الفنان تجربة خاصة، فقد استطاع أن يوظّف الرموز والأيقونات التاريخية داخل مرسمه في المخيم. قمتُ بإعادة إنتاج أعماله، وخصوصاً تلك التي احترقت معه أثناء محاولته إنقاذها من مرسمه بدمشق. قدّمت رؤيتي الخاصة التي ارتكزت على دمج الألوان مع اللونين الأبيض والأسود، اللذين استخدمهما الحلاج في أغلب أعماله.
تستخدم الكتابة المعكوسة في بعض لوحاتك وتحديداً لوحة الفيل واليافطة التي تضعها قوات الاحتلال على مداخل المدن الفلسطينية. هل الفن وسيط للواقع أم هو الواقع ذاته؟
الفن يمكن أن يكون كلا الأمرين. في لوحاتي أحتاج إلى عنصر واضح يتيح للجمهور من أي ثقافة أن يفهم العمل. التركيب البصري الكامل: البيت، المرأة، الطفل، السمكة هو ما ينقل المعنى. المرأة في المخيم ليست مجرد رمز، بل تجربة حياتية، تكسر الصورة النمطية وتعيد بناء الرؤية.
تتضمن أعمالي أحياناً كتابة معكوسة. وتختلف الطريقة التي يُقرأ فيها هذا التحذير. الإسرائيلي يقرأها بوصفها حماية، الفلسطيني يقرأها بوصفها عنصرية، والغربي سيراها تمثّل مشهد صراع.
هل يمكن للفن أن ينتج مساحات شفاء أو مساءلة داخل بيئة ضاغطة؟ وما الذي يستطيع الفن أن يلتقطه في زمن العنف مما لا تلتقطه اللغة؟
الفن انعكاس للحالة الاجتماعية، والمخيم يقوم على فكرة المؤقت. لكن استدامة هذا الوضع أصبحت جزءاً من الهوية الفلسطينية. لذلك قد يكون الفن الوسيلة التي يمكنها إيصال هذه الفكرة بشكلها الأصدق.
أعمل على التأثير بعيد المدى. الفن بالنسبة لي ليس لحظة عابرة أو حدثاً سياسياً مؤقتاً، بل أثر يمتدّ للأجيال القادمة. الحرب كانت تجربة قاسية أثّرت فينا بعمق، ووضعتنا أمام أدواتنا المحدودة، وفي مواجهة أسئلة حول ما يمكن لهذه الأدوات أن تفعله مقارنة بحجم الجريمة.
إذن أنت تعمل على مشروع يهدف إلى تغيير ثقافي؟
أحاول تغيير الصورة النمطية، وأعرض الواقع بشكل مختلف. الخطاب الفردي في الفن أهم من الجماعي أحياناً، لأنه يعكس التجربة الشخصية، التفاصيل، والمَشاهِد التي قد لا تصل إليها الأخبار.
عملي ليس مجرد مشروع بصري أو فني، أشتغل على مفاهيم تتجاوز خيارات المحيط واهتماماته. وفي الوقت ذاته، أحاول أن أشتغل مع الجيل الجديد، ليكون لديه نموذج حي على أرض الواقع. لديّ مرسم هنا، وأفتح أبوابه كل خميس، للأطفال للرسم بحرية.
كيف كان التعامل مع مشروعك على الصعيد الخارجي؟
في الخارج، شعرت أن فرصي أكبر. الناس يهتمون أكثر. في هولندا مثلاً، طلبوا مني توضيح بعض المصطلحات، مثل كلمة "النكبة" غير الواضحة لهم، ما دفعني للانتقال من السؤال العام إلى السؤال الخاص في علاقتي مع اللجوء. لاحظت أن اهتمامهم انصبّ على القصّة الشخصية. ومن هنا بدأ البحث في فكرة فلسطين من خلال القصة الشخصية.
كيف تصف علاقتك بالمؤسسات المعنية بدعم الفنانين؟
لا أبحث عن تمويل بقدر ما أبحث عن مساحة. غياب الحاضنة المؤسسية التي تفهم هذا النوع من الفن المستقل يشكّل تحدياً. غالباً ما يتم رفضي في الداخل بحجج غامضة، مثل "عدم الانسجام مع المعايير"، دون توضيح لماهية هذه المعايير.. لماذا يُحتفى بك في مكان ولا يُحتفى بك في مكان آخر؟
قلت إن الرسم ملجأ. ما السؤال الذي ما زال يراودك ولم يجبك المخيم عنه؟
اللوحة هي ما أريد أن أقول، هي وجهة نظري عما أعيشه. لكن، أعتقد أنني أنحاز إلى السؤال وليس الإجابة، ولهذا أبحث دائماً عن رموز بصرية جديدة تعبّر عنه.









