قبِلت وحدة التراث الحيّ في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو"، الملف المشترك الذي قدّمته 16 دولة عربية، بمبادرة وقيادة وتنسيق من المملكة العربية السعودية، تحت عنوان "فنون الخطّ العربيّ: المهارات والمعارف والمُمارسات" لإدراجه على القائمة التمثيليّة للتراث الثقافي غير المادي للبشريّة في 2021، وسط محاولتين منفصلتين من تركيا وإيران، لتسجيل الخط باسم كل منهما.
جاء ذلك حسبما أكدت آني طعمة ثابت، عالمة الاجتماع والأنتروبولوجيا بـ"جامعة القديس يوسف" في العاصمة اللبنانية بيروت، والعضو في شبكة "يونيسكو" العالمية للميسّرين الخبراء في التراث الثقافي غير المادي، التي أشرفت على الملف.
وسجلت "يونيسكو"، في 17 ديسمبر، طبق الكسكسي المغاربي ضمن قائمتها للتراث العالمي غير المادي، إثر تقديم ملف مشترك من 4 دول مغاربية، هى الجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس، بعنوان "الكسكسي: المعارف والمهارات والطقوس".
وفي اليوم ذاته، أدرجت المنظمة ملف الأفلاج الوطني المقدم باسم دولة الإمارات، وملف سباق الهجن المشترك بين دولة الإمارات وسلطنة عمان، في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي.
مبادرة سعودية
وأشارت ثابت، في حديث لـ"الشرق"، إلى أن الملفّ سلّم رسمياً لمكتب "يونيسكو" في العاصمة الفرنسية باريس، في نوفمبر، بعد أن طرحت الجمعية السعودية للمحافظة على التراث، الفكرة في اجتماع اللّجنة الحكوميّة الدوليّة لصون التراث الثقافي غير المادّي لـ"يونيسكو" في العاصمة الكولومبية بوغوتا في ديسمبر 2019.
وأضافت: "حينها حظيت المبادرة بدعم من المنظّمة العربيّة للتّربية والثقافة والعلوم (ألكسو) والتي نصحت بإعداد ملف عربي مشترك تُقدم فيه كل دولة المعطيات والمعلومات كافة، وحصر البيانات لتسجيلها بشكل علمي توثيقي بالصوت والصورة، لما يُمثّله هذا العنصر من أهمّية في المُحافظة على اللغة العربيّة كأحد مُقومات الهُويّة الثقافية العربيّة المُشتركة، فضلاً عن مزاياه الإبداعية الفنّية والجماليّة والاجتماعيّة ذات البُعد الإنساني العميق"، بحسب بيان "ألسكو".
16 دولة عربية
وأفادت ثابت، بأن "ألسكو" أشرفت على جميع مراحل عمليّة إعداد هذا الملفّ والتّنسيق بين الدول العربية المُشاركة فيه، وتضم إلى جانب السعودية، الأردن، الإمارات، البحرين، تونس، الجزائر، العراق، السودان، وسلطنة عمان، وفلسطين، ولبنان، والكويت، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، واليمن.
وأوضحت، أن الملف احتاج جهوداً كبيرة أسهم فيها عشرات الخبراء والأساتذة الجامعيين، وعاملين على الأرض في الدول الـ16، إذ تضمن معلومات موثقة عن خلفية الخط العربي، وتاريخه، وتطوّره عبر الأزمان والحضارات، وإثبات أنه فن قائم بحد ذاته لا يزال يمارس من قبل خطاطين وفنانين وحرفيين ومصمّمي غرافيتي، مشيرة إلى أن هذه الجهود موّلتها السعودية أيضاً في بعض البلدان التي لم يكن لوزارة الثقافة فيها تمويل مخصص لذلك مثل لبنان".
وأشارت ثابت، إلى أن الملف يبيّن أن الخط العربي لا يزال تراثاً حياً، وينتقل من جيل إلى جيل، ويشترك في تصميمه ورسمه وتخطيطه أجيال مختلفة من الفئات العمرية كافة، والنساء والرجال والشباب، عبر شهادات ومقابلات وصور وفيلم فيديو، لافتة إلى أن "يونسكو" تشدّد على أن تكون المبادرات جماعية لحفظ حقّها بفنها ومهنتها وحرفتها وثقاتها.
وتابعت: "جمع فريق العمل من كل دولة مشاركة في الملف، مجموعة كبيرة من الموافقات الخطية من خطاطين ومصممين وفنيين يؤكدون فيها موافقتهم على إدراج الخط العربي على لائحة التراث، وهو أمر تشدّد عليه اللجان التي تقيّم الملف".
شعور بالفخر والانتماء
وقال المدير العام لـ"الجمعية السعودية للمحافظة على التراث"، عبد الرحمن العيدان، إن الفكرة نشأت "بسبب رغبة المجتمع الممارس للخط العربي في الحفاظ على التراث والممارسات المرتبطة بفن الخط، وتبنت وزارة الثقافة السعودية، الفكرة بتوجيه من الوزير الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، وهي خطوة مكمّلة لإعلان وزارة الثقافة السعودية تسمية عام 2020 "عام الخط العربي" التي تعمل على تعزيز حضوره في المحافل والمؤتمرات المحلية والعالمية.
وأضاف العيدان، لـ "الشرق"، أن التسجيل "يسهم بشكل فعال في تعزيز مكانة وفنون الخط بشكل خاص في المجتمعات المحلية الممارسة، كما يُنمي شعور الشباب بالفخر بتراثهم الثقافي ويرفع الوعي لديهم على الخط كفن للكلمة، وبالتالي يعزز الشعور بالانتماء".
ورأى، أن "الاعتراف الدولي بالخط العربي سيُبرزه على المستوى العالمي، كما سيشجع الخطاطين على زيادة اهتمامهم به، والحرص على تنمية مهاراتهم ونقلها إلى الأجيال القادمة، كما يحفز الخطاطين العرب على المشاركة في المهرجانات والمسابقات والندوات والمنتديات التي تنظم على المستويات المحلية والوطنية والدولية، للالتقاء وتبادل المعرفة والمهارات، وهى أمور من شأنها أن توسع انتشار الخط العربي، خاصة أنه لا ينحصر فقط على مستوى البلدان العربية".
ويتّفق العيدان مع ما قالته ثابت، من أن إدراج الخط العربي على قائمة "يونيسكو"، يلقي الضوء على عنصر مشترك في ثقافة مشتركة بين جماعات وبلدان، وبالتالي يعزز الانتماء للثقافة العربية، والهوية العربية، ويُبيّن التقارب بين البلدان العربية، وبين الخطاطين ومصممي الخط أنفسهم.
فرحة وتحديات
وخلال جولتها على الخطاطين في لبنان، روت ثابت، كيف كانت تلمع عيونهم وخصوصاً كبار السن منهم في طرابلس وصيدا وزحلة، فرحاً عندما تخبرهم عن المبادرة، مؤكدة أن أحدهم بكى بشدّة وهي تجري معه المقابلة، قائلاً: "أخيراً أتى من يُثمّن فننا وعملنا، إذ لم تعترف وزارة الثقافة اللبنانية بنا يوماً، ولم تلتفت الدولة لنا".
هذا الفرح يغمر أيضاً الخطاطين في مختلف الدول العربية، كما قال الخطاط السعودي، فهد المجحدي لـ"الشرق"، مؤكداً أنه وزملاءه في المملكة "بدأوا يلمسون اهتماماً بمهنتهم، والأهم الاعتراف بالخط العربي كفن قائم بحدّ ذاته له مساراته ومستقل عن باقي الفنون التشكيلية، وهو ما يعززه إدارج الخط على قائمة "يونيسكو"، ويمنحه قيمة فنية أكبر واعترافاً رسمياً عالمياً بترسيخ هذا الفن المتجدّد".
لكن المجحدي، لا ينفي وجود تحديات تواجه الخطاطين، منها عدم وجود أكاديمية أو معهد يتعلم فيه الناشئة بشكل رسمي علم الخط وأسراره، بل لا يزال يتناقل من شخص إلى آخر عبر الآباء والأجداد، إلى جانب الحاجة إلى ترتيب مهنة الخطاطين لتكون لديهم وظائف محدّدة ومحترفات متخصصة يعملون بها، وأماكن تُصرّف أو تعرض فيها أعمالهم"، فضلاً عن التحدي الأكبر المتمثل في تحديث المهنة ورقمنتها لتحاكي العصر من دون تهميش التراث.
خطوة متأخرة
الفنان ومصمّم الغرافيك اللبناني، كميل حوا، أعرب عن دهشته لأن "يونيسكو" لم تلتفت حتى الآن للخط العربي، على الرغم من أنه مكوّن رئيسي من مكونات الفن في التراث الفني العالمي غير المادي، معتبراً ذلك نقصاً فادحاً من المنظمة".
وقال، لـ"الشرق": "إذا نجحت المبادرة السعودية في تحقيق هذا الأمر، فهذا إنجاز يعزّز مكانة (يونيسكو) نفسها بقدر ما يعزز مكانة الخط العربي، كما أنه يمنح لائحة المنظمة مصداقية وقيمة مضافة، لأن الخط العربي من أهم إنجازات المنطقة العربية الفنية تاريخياً للعرب ولغير العرب من شعوب إسلامية في العالم، وللفنانين في آسيا وأوروبا وإفريقيا وغيرها".
وأضاف حوا، أن إدراج الخط العربي، من الممكن أن "ينشر حماسة عند العرب وجيرانهم لهذا الخط، وربما تتمخّض عن هذا الحماس أفكار ومعارض ومتاحف ومسابقات وعودة إلى تدريس الخط في المدراس كمادة تشكيلية غنية، فضلاً عن كونه وسيلة تواصل وتجميل".
محاولات إيران وتركيا
وبينما كان فريق عمل المبادرة السعودية يواصل عمله لإدراج الخط العربي على قائمة "يونيسكو"، قرّرت إيران وتركيا تسجيل موقف سياسي لانتزاع الخط العربي من العرب باسم الإسلام، إذ قدّمت تركيا للمنظمة اقتراحاً بتسجيل ملف "الخط الإسلامي" في 2021، فأرسلت إيران اعتراضاً رسمياً إلى المنظمة على الاقتراح التركي، بحسب قناة "إيران إنترناشونال" في 27 يوليو 2020.
وأعلنت القناة، أن محمد حسن طالبيان، نائب وزير التراث الثقافي، اعترض على اقتراح تركيا، قائلاً: "صفة الإسلامي لا يمكن أن تقتصر على تركيا، بغض النظر عن حقيقة أن أصل الخط الإسلامي يجب البحث عنه في إيران".
وأضاف: "يمكن لكل دولة أن تحاول تسجيل خطها في القائمة، ولكن استخدام صفة (إسلامي) يشير إلى منطقة أوسع من تركيا، وقد أعربت إيران رسمياً عن معارضتها لهذا العنوان، لأنّ الإسلام لا يقتصر على تركيا، وعلاوة على ذلك، يجب إرجاع أصول الخط الإسلامي إلى إيران".
وفي يونيو 2020، أعلن مصطفى بورالي، أحد كبار المسؤولين في وزارة التراث الثقافي والسياحة والحرف اليدوية الإيرانية، أنّ الخط الإيراني يسعى إلى التسجيل في قائمة "يونيسكو"، مشيراً إلى أنّ اللجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي غير المادي التابعة للمنظمة ستعلن قرارها بشأن الملف خلال دورتها في عام 2022.
وفي 12 يناير، نشرت وكالة أنباء "إيران برس" الدولية، مقابلة خاصة مع الأمين العام للجنة الوطنية لـ"يونيسكو" في طهران، حجة الله أيوبي، صرّح فيها بأن "التراث غير الملموس للخط سيسجل باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية في وقت مناسب".
وأضاف، أنه تم إعداد "ملف جيد" لتسجيل الخط الإيراني عالمياً، مشيراً إلى أن العمل جار على قدم وساق لهذا الأمر.