متكئاً على ريشته، يخطو الفنان التشكيلي المصري جورج بهجوري نحو عامه التاسع والثمانين، وهو لا يزال غزير الإنتاج، وحريصاً على الوجود في الفضاءات الثقافية.
في معرضه "باليه بهجوري" الذي أقيم مؤخراً بجاليري "أوبنتو" في العاصمة المصرية القاهرة، قدّم بهجوري مجموعة أعمال رسمها في شبابه بين عقدي الستينيات والسبعينيات، وكان متأثراً بولعه بفن الباليه، كما قال في مقابلة مع "الشرق": "أنا مولع بالحركة، كنت أشاهد الأوبرا يومياً، وأشاهد الراقصات، أرسمهن لأنهن يعبرن عن الحركة، أجسادهن هي الحركة نفسها".
رسام ساخر
ولد جورج بهجوري في صعيد مصر عام 1932، وتخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1955. عُرف حينها كرسام للكاريكاتير السياسي الساخر في مجلة "صباح الخير"، وجريدة "روز اليوسف"، قبل أن يلتحق بأكاديمية الفنون في باريس عام 1970، حيث أمضى 20 عاماً في التنقل بين القاهرة وباريس.
عُرضت أعمال بهجوري في أهم الصالات الفنية عبر العالم، مثل متحف اللوفر، ومتحف الفن الحديث في عمان، ومتحف الفن الحديث في القاهرة، كما نال عدداً من الجوائز الفنية، منها الجائزة العالمية الأولى للكاريكاتير في روما عامي 1985 و1987، وجائزة الملك عبد الله الثاني للإبداع والفنون.
"رائد البورتريه"
يعد بهجوري أحد رواد فن البورتريه، يدقق النظر في وجه من يلتقيه وكأنه يقوم بمسح ضوئي سريع، يطيل تأمل العينين، واستدارات الجسد، سريعاً تتحول الشخوص بين يديه إلى مفارقات يضعها على الأوراق.
متأثراً بعمله كفنان للكاريكاتير، خلق بهجوري طريقته في قراءة وتقديم الأشخاص، بخطوط بسيطة تميل إلى التجريد، فعادة ما يحدد ملامح أبطال لوحاته خط أسود شديد الوضوح. يقول إن "الوجه يعبر عن كل شيء، كما أن للعينين حضوراً قوياً، فمن دونها لا نستطيع أن نرى الجمال الداخلي".
على هذا النهج قدم بهجوري مئات البورتريهات، أبرزها مشروعه لرسم أم كلثوم بطريقة كاريكاتيرية، تمتزج فيه قوة الألوان بقوة الخطوط، لوحات يحرص بهجوري على تقديمها في كل معارضه، إلا أنها غابت هذه المرة.
ربما يشعر الزائر للوهلة الأولى أنه أمام مشروع جديد، بسبب غياب لوحات أم كلثوم، واختيار تيمة مغايرة لنساء بهجوري الشعبيات. غير أن بهجوري يؤكد أن "الباليه فن راق وجميل، يحتاج إلى إلقاء الضوء عليه، وأن نرسمه. هو غريب عن مجتمع الشرق، لكنه فن ممتع وجميل".
وعلى الرغم من الأهمية القصوى للوجه والبورتريه في مسيرة بهجوري، فإن الجسد يحتل المركز في مجموعته "باليه"، إذ تتخلى معظم لوحات المجموعة عن الخطوط السوداء التي طالما عرفت بها رسوم بهجوري، لمصلحة حضور قوى للحركة في كل لوحة.
يؤكد بهجوري الأمر في مقدمة كتالوج المعرض، إذ كتب: "الجسد يتألم ثم يتلون، ينقلب ثم يعود، يطير في لحظة حب مع ريح صغيرة، يسافر إلي هناك ثم يعود. تنحني تتلمس ذيل فستانها وفي شعورها معنى جديد، إنها ترقص رقصة الوداع بينما جعلت مع ذيل فستانها جناحاً تطير به وتغني أغنية الحب في صوت حزين".
قُدمت اللوحات راقصات الباليه بشكل مسرحي، لا تغيب عنه الدراما، التي عبر عنها غياب الألوان أحياناً، وقوتها في أحيان أخرى، فتلك راقصة ترتدى زياً مسرحياً، وأخرى تكاد تختفي وسط ملابسها الشفافة وألوانها الرقيقة، هذه المساحة من اللعب بالألوان، التي فرضتها طبيعة موضوع المعرض، وحركات رقصة الباليه، لم تمنعه من وضع مسحة من المبالغة الكاريكاتورية.
هي سمة أساسية تمتاز بها ريشة بهجوري، التي لم تستسلم للصورة المثالية التي ترسمها راقصات الباليه على المسرح، فهن على لوحات بهجوري أقرب إلى النساء الشعبيات، تبرز استدارات أجسادهن، رغم إيقاع الحركة الملحوظ في اللوحات.
يقول بهجوري: "في رقصة الباليه يتحرك الجسد سريعاً، لا يصح أن يحددها اللون الأسود، هذه الحركة فيها الكثير من المعاني، الحركة دائماً ما يصحبها في الخلفية شيء ثابت يعزز شعورك بالحركة، ويمنحك إحساساً بالتناسق، هنا يكون حضور الرسم أكبر، كأن تمسك الراقصة طوقاً، أو أن تكون رقبتها طويلة بشكل مبالغ فيه قليلاً، أو أن تغيب ملامحها بالكامل لمصلحة انحناءات الجسد، هذا يحيلك إلى المعنى الذي تنشده اللوحة".
واعتبر الدكتور أحمد مجاهد، أستاذ النقد بجامعة عين شمس، أن لوحات المعرض "لا تصور جسد راقصة الباليه في مثاليته المنشودة، ولا في أوضاعه المبهرة، لكنها تصور في أغلبها نساء عاديات، أعادت الدنيا القاسية نحت أجسادهن، فحذفت شيئاً هنا وأضافت أشياء هناك، لكنهن ما زلن قادرات على الرقص ومواصلة الحياة".
وأشار مجاهد في مقدمته لكتالوج المعرض، إلى أن اهتمام بهجوري برصد تلك المقاومة الروحية "أكبر كثيراً من اهتمامه برسم نموذج أنثوي مثالي، لملاك سقط علينا للتو راقصاً من السماء".