فى كتابها الصادر حديثاً "إبراهيم ناجي.. زيارة حميمة تأخرت كثيراً"، تنطلق سامية محرز أستاذة الأدب العربي والمديرة السابقة لمركز الترجمة في "الجامعة الأميركية في القاهرة"، من "رحلة تحرر"، للبحث عن الذات وترميم العلاقة مع جدها لأمها الشاعر الرومانسي إبراهيم ناجي، وهي علاقة لطالما تمردت عليها.
خروج عن الإطار
فكرة الكتاب بُنيت على آخر ما تبقى لورثة إبراهيم ناجي من أوراقه التي استقرت بين يدي حفيدته سامية محرز على شكل مظروفين فيهما مفكرة تضم تدوينات بخط يده في الفترة من 1944 حتى 1949، إضافة إلى مجموعة من الخطابات والترجمات التي لم تنشر من قبل، وفقاً لما أكدته في مقابلة مع "الشرق".
تقول محرز التي ولدت عام 1955، بعد وفاة ناجي بعامين: "حاولت في هذا الكتاب الخروج على الإطار الذي كبّل إبراهيم ناجي، باعتباره شاعر قصيدة الأطلال التي غنتها أم كلثوم، لأقول إن له كتابات نثرية وترجمات وكتباً علمية وقصصاً قصيرة، حتى مذكراته ومقالاته كانت تشير إلى أننا أمام مثقف موسوعي وقارئ نهم ومترجم نشيط".
قطعت محرز طريقها نحو الأدب العربي من جهة مغايرة تماماً لجدها الذي أغرم بالشعر والكتابة الأدبية، فهي درست وتربّت في مدارس أجنبية منذ الطفولة، وتخصصت في الأدب الإنجليزي؛ ولكنها درّست لاحقاً الأدب العربي وفنون الترجمة في الجامعة، ثم أسست مركز الترجمة بالجامعة الأميركية عام 2009، وصدر لها عدة دراسات ومقالات في مجال الترجمة الأدبية والنقد الثقافي.
يختلف كتاب محرز تماماً عن إصداراتها السابقة التي تناولت حياة جدها. تقول: "أنا لست مفتونة بناجي كما هو الحال مع والدتي وخالاتي، بل أرفض هالة التقديس التي أحاطوه بها، فالكتاب يحاول الابتعاد عن هذه الأوصاف، كما أن الحالة العاطفية ليست دافعي للكتابة، لأني لم أعرفه وولدت بعد موته بعامين، ولذلك حاولت الكتابة عنه بحياد تام، وأكثر من ذلك أني أنتقده وأشاغبه في بعض النقاط".
تتابع: "نحن مختلفان (وأنا مصرة على ذلك)، لكن هذه الزيارة خلقت بيننا صداقة، وقد سمحت لي مفكرته بالتعرف عليه وتقبّله، فحياة ناجي مبهرة بالنسبة لي، لأنه كان مليئاً بالطاقة. ورغم حياته القصيرة والأمراض التي أصابته والمحن التي مر بها، إلا أنه استطاع أن يكون مثقفاً موسوعياً في كل النواحي، بما في ذلك هوسه بالعلم والكتابة والمعرفة ونشرها على جمهور عريض".
لا تصنف محرز كتابها كسيرة لناجي، وإنما تحقيق لإرثه الأخير الذي تركه وظل حبيساً لأكثر من نصف قرن، تضيف "اخترت أن أسميه (زيارة) لأني أتعرف على شخص لا أعرفه، من خلال خط يده وأوراقه، فالكتابة عن ناجي ليست مشروع العمر بالنسبة لي. أنا أكتب فقط عن الوثائق التي عثرت عليها، وحاولت ربطها بالتواريخ والأحداث في حياته، وما وصلني من حكايات".
نموذج لمثقفي جيله
تبني الناقدة المصرية كتابها على رحلات متعددة قطعها أفراد الأسرة من أربعة أجيال، أولها رحلة أمها أميرة ناجي التي رفضت الكشف عن الكثير من التفاصيل العائلية، واتخذت موقفاً دفاعياً عن ناجي.
توضح محرز أن "هذا الموقف يتبدل على مدار القراءة، إذ جعلها افتتانها بالنص تتقبل وتحب تعرية الصورة الحقيقية. هذه الصياغة جعلتها تتقبل الصورة الجديدة لوالدها وتتصالح معها، وهو مشوار طويل بالنسبة لسيدة عمرها 90 سنة".
أما الثانية، فهي رحلتها الشخصية التي ترصد فيها سامية محرز رفضها ونفورها من الشعر الكلاسيكي، ثم تصالحها مع قصيدة الجد، وترجمتها في إطار دراسة بحثية، قدمتها في السبعينات، والتي تمثل علاقة متقطعة.
والرحلة الثالثة والأخيرة تدور حول ابنها الذي يمثل في الكتاب وعي الجيل الرابع، حيث لا يعرف عن جده سوى المعلومات العامة، ولكنه يعيد قراءة إرثه من خلال الكتاب.
واستندت محرز فى رحلتها إلى "أعمدة" قسّمتها وفقاً للوثائق التي عثرت عليها، أولها خطابات ناجي إلى جدتها وترصد بدايات تصدّع علاقة الحب بينهما، واختلاف المزاج والطباع والهوايات بين الزوجين، وهي صورة مغايرة تماماً للصورة التي استخدمتها العائلة للدفاع عن نفسها في وجه طوفان النميمة الصحافية.
ثم المفكرة التي يكتب فيها ناجي عن ضائقته المالية والوظيفية، وعلاقاته العاطفية ومشروعاته الأدبية، حيث خصصت أيضاً قسماً للاهتمام بكتاباته في الطب والثقافة العلمية، وترجماته للأدب الإنجليزي والفرنسي، ومنها أغنيات شكسبير التي لم تنشر قط.
وتقول: "هذا الكتاب مبني على نقاط اللقاء بين تكوين ناجي وتكويني. أنا العابرة للتخصص أيضاً، كان لابد حين أكتب خارج السياق الأكاديمي أن أستعين بهذا التكوين وأوظفه، وهو أمر أشبه فيه ناجي. هناك توازٍ في ما بيننا وهو موجود على مدار الكتاب".
ترصد محرز أيضاً قصة حياة عائلة أحمد ناجي، وكيف صعد الجد الأكبر من كونه موظفاً صغيراً ليشغل منصباً رفيعاً في هيئة التليغراف، وكيف كان يقرأ لزوجته كتابات ديفيد كوبرفيلد على مسامع ابنهما الصغير، ليكبر الأخير ويكوّن مكتبته الخاصة بنفسه ويعلّم نفسه لغات أخرى".
وتضيف "إبراهيم ناجي نموذج لمثقفي جيله الذين لا يشعرون بالتبعية، بل هم أنداد لكل ما يدور في الغرب، يريدون نقله لأنهم اعتقدوا أن هذا هو طريق النهوض بالثقافة العربية، أما نحن فنتعلم الترجمة بمنطق مختلف، مبني على دراسات ما بعد الكولونيالية ونقد الاستشراق".
"لا ينفرد ناجي بكونه قارئاً بعدة لغات، بل كانت تلك هي السمة الغالبة على كل الصفوة الثقافية"، وذلك بحسب رأي محرز، الأمر يفتقر له الواقع المعاصر بشدة.
تقرأ سامية أيضاً الكثير من ظروف سوق الترجمة التي لم تكن في أحسن حال، رغم أنها جاءت تالية لجيل رفاعة الطهطاوي، ورواج حركة الترجمة والقراءة بعدة لغات. تقول: "من خلال أزمات جدي مع الترجمة والنشر، وجدت الكثير من التفاصيل عن هذا السوق، مثل الأجر الذي لا يكفي ولا يمكن الاعتماد عليه. وهذا النوع من المعلومات عن تاريخ الترجمة ليس موجوداً في المقالات الأكاديمية".
ملهمات ناجي ومشروعه الأدبي
غنّت الفنانة الراحلة أم كلثوم رائعتها "الأطلال" من شعر إبراهيم ناجي بعد أكثر من 13 عاماً على وفاته، فانبر الكثير من نجمات الفن والأدب للتصريح للصحافة وقتها بأن القصيدة كُتبت لهن، ما شكّل عاصفة واجهتها الأسرة آنذاك، واضطرت معها بنات ناجي الثلاث إلى نشر بعض خطابات أبيهن إلى أمهن، وفقاً لمحرز.
اهتمت محرز أيضاً بالمُلهمة الأولى لجدها التي قد تكون "الأطلال" كتبت لها. وتقول: "لم يكن همي الدفاع عن ناجي أو الحفاظ على صورة العائلة، فأهمية ملهمة ناجي الأولى (علية الطوير) لا تقف فقط عند قصيدة الأطلال، بل لأنها علاقة المراهقة التي ربما أدت إلى توجهه الرومانسي. ثانياً لقد حفزته علاقته بها أن يُعلّم نفسه اللغة الفرنسية وأن يترجم عنها لاحقاً. وأنا أتتبع هذه الشخصية لأنها غالباً كانت مؤثرة على تكوين ناجي الفكري كله، بغض النظر عن كونه كتب الأطلال لها أم لا".
تشير محرز إلى أنها كانت تعرف اسم الفتاة منذ اللحظة الأولى وقبل الشروع في الكتابة، ولكنها فضلت أيضاً أن تكتب كمُخبر يُحقق ويربط الخيوط، لأن كتابها كما تقول "ليس حكراً على القارئ الأكاديمي، وكان من الضروري أن تكون الكتابة سلسة ومشوّقة وقادرة على استبقاء القارئ، وهذا المشوار الذي نمشيه سوياً لنصل إلى (علية الطوير)، هو جزء من لعبة أحببت أن ألعبها مع القارئ".
في المقابل لم تعر سامية محرز للملهمات الأخريات أي اهتمام كي "لا يتحوّل الكتاب إلى نميمة"، خصوصاً أنهن لسن "داخل الإطار الذي أتحرك فيه، والأوراق التي بين يدي، وشهادة أمي".
هذا الإطار دفع الكاتب والناقدة المصرية إلى المرور سريعاً بالجميع، من دون ذكر الأسماء أو حتى محاولة التأكد من وجودهن في حياة ناجي، باستثناء الملهمة الأخيرة "زازا"، وهو اهتمام برّرته أيضاً بأن جدها كتب عنها رواية كاملة، وأهداها بعض قصائده، وذكرها في مفكرته.
تتابع حديثها: "نحن هنا لا نتكلم عن التاريخ العائلي، بل عن مشروع ناجي الفكري، والظرف الذي كتب فيه، وتقلباته. كنت أحاول أن أوثق ذلك من خلال تزامن التواريخ مع علاقاته بهن. حاولت أن أستند إلى خط يده وإلى الرواية. هذه العلاقات ليست مهمة إلا باعتبارها متقاطعة مع مشروعه الأدبي، حتى المشهورات منهن، لأنهن لسن مؤثرات في مشروعه الأدبي".